الفساد، بمفهومه المتداول، اليوم، هو رذيلة مركوزة، بشكل طبيعي، في البشر، لكنها تكون في الغالب نائمة، فإن استيقظت، فإنما تستيقظ في نفس من في قلبه مرض، ثم تستمر قائمة طوال الوقت؛ لذا لم تخل منها مجتمعات إنسانية، في أي تاريخ قط؛ فعرفتها البشرية في كل أطوارها وأدوارها، ورصدت لمواجهتها ترسانة تقاليدها القانونية، وأهم ما فيها المستمدة من فروض الدين وحدوده وزواجره، ووصاياه؛
مجتمعنا الموريتاني القديم، لم يكن استثناء في ذلك، فقد عرف، في فصول تاريخه السحيق، مثله مثل غيره من المجتمعات، أنماطا بدائية من الفساد، وفي عصر السائبة، وحقبها المتتالية، في غيبة السلطة المركزية الناظمة، تحتفظ الذاكرة الجمعية بأوجه فساد، لا تكاد تغادرها، كانت في أغلبها متعلقة، إما بمظالم مشهورة مشهودة، وإما بمغانم مفقودة مطلوبة مرغوبة.
في الدولة الوطنية الجامعة المعاصرة، اختار الرئيس المختار ولد داداه ورفاقه الأوائل، نظاما سياسيا أحاديا، على غرار أنظمة النشأة من حولهم، في شبه المنطقة، لكنهم كانوا أمناء، في أحاديتهم تلك (المستبد العادل)؛ ورغم ذلك فقد عرفوا صورا من الفساد، كانت قليلة، وضئيلة، ومنعزلة، وكان التعامل معها حازما صارما، فتم إشهارها علنا، بعد كشف ملابساتها، وعوقب مقترفوها بالخلع والحبس والغرم؛
أول تصاعد لافت عرفته معدلات الفساد، جاء مع أول انقلاب على السلطة، سنة 1978، رغم شح الموارد لدى الدولة يومئذ؛ ثم، ومع تدفق القروض في عهد معاوية، باض الفساد وأفرخ وعشعش في جميع مفاصل الدولة، فوصل معدلات كارثية في العقد الأخير من عشرينيته التي ضرجتها دموع ودماء؛ ثم ورثه في فساده قادة انقلاب 2005، الذي دغدغ عواطف الناس بحلم إرساء نظام مدني وتناوب سلمي شفاف، على السلط؛
مات حلم التناوب ذاك، وشبع موتا بين يدي قوابله من الضباط، عندما استولى على السلطة، جنرال مقال، في انقلاب عام 2008، وهو الانقلاب الذي أنجب العشرية التي تعتبر على نطاق واسع الأكثر فسادا؛ فلا "سابقة" لها، ومعقد رجاء المواطنين أن لا تكون لها "لاحقة" من مثلها؛ فقد جاوز سيل فسادها الزبى، حتى أغرق الربى، واتسعت خروق الفضائح فيها على الرتق، ودون تهم محددة وأسماء، كانت عقد فساد لا مثيل له في تاريخ هذا البلد وأهله؛
كان التبجح علنا بالفساد شيئا بغيضا، وازدراء الدستور والقانون أمرا كريها، والتطاول على المواطنين خلقا مهينا؛ وباتت الدولة بكل مفاصلها، مجرى للفساد، منها ينبع، وبينها يجري، وفيها يصب، وخارج منبعه ومجراه ومصبه، أقفرت الدولة، إلا من الفاسدين، وسيق شعبها إلى الفاقة سوقا، حتى خير المواطنون الشرفاء، وكلهم شرفاء، بين المروءة والفضيحة؛
في العشر الشداد، عاد الناس أدراجهم، إلى مألوفات عهد اللا دولة، فاستقر بهم المقام في مضارب قبائلهم وفئاتهم، ييئونها للبيع ومقايضة الولاء، وقد أضاع منهم سباق الازدلاف والتملق، قيم الخير،، فهجروا الصدق، وضيعوا الأمانة واقتحموا ستر العفة والمروءة، وداسوا المكرمات والمثل والشمائل، بالأقدام والنعال، وأسرجوا للجريمة والفضيحة بغالا، جعلوا منها خيل الرهان؛
"ضياع الأمانات" الكلمة التي تختصر مفهوم الفساد السائد المتداول اليوم على كل لسان، فيما تضع لجنة التحقيق البرلمانية التي انتدبت لمراجعة بعض ملفاته، لمساتها الأخيرة، على شهادات وإفادات المستجوبين، حولها، والمعلومات المقدمة عن صفقات كبرى، فاحت رائحة فسادها، فأزكمت الأنوف، طوال العشرية؛ وفي انتظار نشر تقريرها النهائي وكشف الأمانات المضيعة وتحديد من تولى كبر ضياعها، يحبس الناس أنفاسهم؛
نعم، فلقد استبيحت الأمانات والذمم في صفقات غش كثيرة، وعمليات اختلاس نوعية، وفي تنازلات ورشى واحتيال وتراض تحت الطاولة، وفي تعديات سافرة متبجحة على أملاك عمومية، وضعت اليد عليها، خارج القانون، غلولا صامتة أو ناطقة، وفي تزوير فاضح فج للمستندات والوثائق والعقود، وفي تسمين فواتير المشتريات وتقارير الحسابات، والعبث بالدومين العام، ومنحه والتصرف فيه ضد أي قانون؛ ولا يمثل ما ذكر غير يسير مما لم يذكر، من آثار الأمانات المضيعة؛
لجنة التحقيق البرلمانية التي فتحت مأموريتها، مرة، وأضافت إلى جدول أعمالها عناوين جديدة، طلبت من جديد تمديد المهلة، وإضافة ملفات فساد أخرى برزت في الاستجوابات؛ وبين أيديها الآن رزم من الشكوك ومشاريع التهم؛ ولا يعرف على وجه التحديد، ما إذا كانت ستنشر تقريرها، فورا وعلنا، أم تحتفظ به كوثيقة سرية لدى الجمعية الوطنية، تتخذ على ضوئها، ما ترى مما يتطلبه الوضع من إجراءات؛
يرجح على نطاق واسع جدا، أن يكون من بين إجراءات الجمعية المحتملة، إحالة ملفات عدة، وقوائم أسماء، إلى ردهات القضاء المختص ليقول في كل ملف، وكل من اعتبره البرلمان متهما، كلمته الفصل؛ ويرجح كذلك، وبعيدا عن التهم المحددة والأسماء، أن يكون التقرير في النهاية بمثابة جراب مختوم، ينثر يوم يتقرر فتحه الكثير من التفاصيل المثيرة، عن الأمانات المضيعة، ومن تولوا كبر تضييع الأمانات؛
ويسألونك عن تسريبات، وثائق وتقارير جزئية، تسللت، ربما بفعل فاعل، من ملفات لجنة التحقيق البرلمانية، واقتحمت، على حين غفلة من الناس، معظم الصفحات والمواقع، وهي تحدثت بلغات مختلفة، عن شركات، وصفقات، وخروقات، وأضرار بالغة، نتجت عن خسارة الدولة لأموال طائلة؛ والأرجح، خلافا للمشككين في صدقيتها، أنها، فعلا، أجزاء وفصول وجذاذات من تقرير اللجنة المرتقب، والذي تفترض فيه السرية الكاملة؛
سؤال التسريبات لا تنقصه الوجاهة، و هو عنوان لعدة أسئلة، في مقدمتها السؤال عمن سرب الوثائق؟ ومن أمر من؟ وما علاقة التسريبات بالتصريحات المتلاحقة باكتشاف بؤرة أو حيزة وثيقة مهمة؟ وما حجم الضرر الذي تلحقه هذه التسريبات والتصريحات بمصداقية اللجنة وبعملها وبأعضائها؟ وما الرسالة التي تحملها، وإلى من؟ وما حجم مواءمة التسريبات للتوقعات، هل طابقتها؟ قصرت عنها؟ تجاوزتها؟ ولم خلت التسريبات من تهم محددة لأي كان، مع بشاعة ما تتحدث عنه؟!
التسريبات، باتت أقرب إلى الصحة، فإن تبين أنها أخطاء فردية، لبعض أعضاء اللجنة، فإن الثقة فيها ستتضرر كثيرا، أما إن كان تسريب المستندات قد تم بفعل فاعل، مع سبق الإصرار والترصد، وهو الراجح، فوراءها – حتما - صراع أجنحة فساد، هي على علاقة ما بملفات التحقيق؛ وهو صراع إذا لم يتوقف، فإن في مقدمة ضحاياه، ليس لجنة التحقيق البرلمانية نفسها، فحسب، بل وعملية الإصلاح الوطني المنشودة، برمتها؛
عموما، فإن الفضل يعود للجنة، في توثيق ما تكشف عن مخاضة الفساد الآسنة التي تتخبط البلاد في أوحالها، ما تزال، وبعملها استبانت الأبعاد والقياسات العميقة للمستنقع الكريه، وقياس معدلات توسعه في كل الاتجاهات، طيلة عشر شداد، جمع فيها المجتمع، كما لم يحدث من قبل، بين السنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان؛ والأهم من كل ذلك أنها وثقت شهادات كبار المسؤولين، من فاعل ومفعول به، وإفادات شهود المرحلة، من مختلف الصفوف، في مختلف المواقع.
الفساد المستشري في مفاصل دولتنا، والمتراكم عبر السنين والعقود، وعوامله من الاستبداد والانقلابات؛ ذلك هو مصيبتنا الحقيقية التي تكبلنا، وهي ترفض تسريحنا، ولا علاقة لها بصراع الانظمة أو القيادات، أو الاشخاص؛ ولجنة التحقيق، التي يفترض أن تستبعد في عملها كل الاحكام المسبقة، وتتجنب التهم بلا دليل، والتحامل بأية دوافع سلبية، شخصية أو اجتماعية، قبلية أو جهوية أو فئوية، أو سياسية؛ يجب أن تكون مهمتها ودافعها الوقوف على الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، في كل ما يثار من قضايا؛
واللجنة هي رأس الحربة في معركتنا الحاسمة مع الفساد، وهي معركة لا ينبغي أن تتوقف إلا بعد إلحاق هزيمة ساحقة بالفساد والمفسدين؛ هزيمة لا تنتصر فيها قبيلة ولا جهة ولا فئة، على شركائها في الوطن؛ بل تنتصر بها أمة بدينها ومقوماتها ومثلها وأصالتها، ومكانتها في العالم، وينتصر بها شعب بأمله وتطلعاته المشروعة للعدالة والحرية والوفرة والإصلاح، وتنتصر بها دولة ضد التخلف وعوامل الفشل والاندثار؛
إنها معركة حق، لا باطل، وصدق لا كذب، وعدل لا جور؛ ولا يقبل بحال أن نشنها لترمي بريئا، أو ننهيها لنبرئ أثيما؛ معركة يجب أن نضع فيها أذنا من طين، وأخرى من عجين، في وجه الذين يختزلون مصيبتنا، من وطأة الفساد والاستبداد، في خلاف شخصي بين سابق ولاحق، في قمة الهرم أو قاعدته وإن بارقة الأمل التي أضاءت جوانح شعبنا، ولمعت في عيون أطفالنا يوم اخترنا من تقدم لقيادتنا مدنيا، رغم تمرسه بالجنود وخفق البنود، وخاض سباقا نظيفا ففاز وتعهد ووعد وواجه عواصف التحديات التقليدية والطارئة، بكفاءة واقتدار.