من الوضح أن الحكومة، والرئاسة من بعدها أدركوا – أخيرا – حجم الأزمة التي يتخبط فيه الإعلام عموما، والإعلام الرسمي (كان يفترض أن يكون عموميا) على وجه الخصوص، وسيدركون لاحقا أن الشعب؛ رؤية، وسلامة تصور عن الواقع، ودقة في الأحكام والاستشراف، والبلد سمعة، وحاضرا، ومستقبلا، هما أكبر متضرر من "الرعاية الرسمية" لتمييع وإفساد الإعلام.
أمس الأربعاء، قدم وزير الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان المرابط ولد بناهي بيانا خلال اجتماع الحكومة يتعلق بتعزيز منظومة الإعلام العمومي من خلال إنشاء هياكل جديدة وتفعيل أخرى، وذلك بهدف "تمكين أقطاب الإعلام العام والخاص بمختلف أنواعه من أداء مهامها بطريقة مهنية، من خلال تزويدها بالمعلومة الصحيحة ومن مصادر موثقة".
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير لاحقا قال إن البيان المقدم للحكومة يسعى "إلى تعزيز منظومتنا في مجال الإعلام العمومي وترقيتها وتمهينها لإنارة الرأي العام بطرق مهنية ناجعة، تعتمد مقاربة القرب والآنية إلى جانب الصدق والشفافية".
وعدد الوزير من بين الإجراءات التي تقررت بناء على البيان إنشاء مكتب إعلامي في الرئاسة، وتفعيل خلايا الإعلام على مستوى القطاعات الحكومية للتنسيق بين الصحافة وتلك القطاعات، ولتساهم في تنفيذ السياسة الوطنية في مجال حرية الإعلام في البلد، هذا إلى جانب متابعة وتقييم الأنشطة الإعلامية التي يقوم بها مسؤولو الاتصال في تلك القطاعات.
خلال العقود الثلاثة الماضية، خاضت السلطات الرسمية حربا لا هوادة فيه على الإعلام والإعلاميين، عبر أساليب متعددة، هدفها قتل الإعلام ببطء، ومحاولة إفلاسه بتركيز الضربات على رأس ماله الحقيقي، وهو المصداقية، وتم ذلك من خلال رعاية تمييع الإعلام عبر "غزوه" بجيوش من الفشلة، والمتسربين، والمتقاعدين من مختلف الأجهزة الأمنية، وتعطيل النصوص القانونية الصريحة في تحديد من هو الصحفي، ثم التعطيل المتكرر للجان البطاقة الصحفية الموحدة، والتراجع عن التزامها بتطبيق خلاصات الأيام التشاورية لإصلاح الصحافة المنظمة 2016، واحتكار إعلام الخدمة العمومية، وتجييره لصالح الحكومة، ومنحه "ميزات" تفضيلية غير مبررة في مقابل وسائل الإعلام المستقلة.
أظهر ولد الغزواني منذ وصوله للسلطة اهتماما بالإعلام، فقد أجرى لقاء موسعا مع الإعلاميين مارس 2020، وغرد على حسابه في تويتر بمناسبة العيد الدولي للصحافة مهنئا "جميع منتسبي مهنة المتاعب" في البلد، ومثمنا "الدور الذي قامت به صحافتنا في التصدي لجائحة كورونا"، كما جدد "التأكيد على دعم وترسيخ حرية الصحافة بالتشاور بين القطاعات الحكومية المعنية والتجمعات الصحفية"، واعدا بالعمل "على تطوير وتمهين الحقل الصحفي".
كما لوحظ مراعاة التجربة الإعلامية في اختيار بعض مديري المؤسسات الإعلامية الحكومية، دون أن ينعكس هذا الاختيار بشكل واضح على المخرجات، وطبيعة التعاطي مع المتلقي، وأساليب المعالجة الإعلامية.
وفي 20 يوليو 2020 أعلن عن تشكيل لجنة عليا عهد لها بإصلاح الصحافة، وينتظر أن تعلن نتائج عملها الذي استمر عدة أشهر قريبا.
صحيح، أن الاهتمام الرئاسي المعلن بالإعلام، لم ينعكس على التعاطي الشخصي معه، فلم يُقدم الرئيس ولد الغزواني على إجراء أي مقابلة مع وسيلة إعلام موريتانية منذ وصوله للسلطة أغسطس 2019، علما أنه قابل وسائل إعلام فرنسية، وسنغالية، وإماراتية، كما استمر في عهده احتكار وسائل الإعلام الرسمية (يفترض أن تكون عمومية)، للمعطيات والتغطيات في الرئاسة، وفي غيرها من الإدارات الحكومية.
اليوم، تخرج الحكومة في بيان رسمي معترفة بقصورها – أو تقصيرها - في "تمكين.. الإعلام من أداء مهامها بطريقة مهنية، من خلال تزويده بالمعلومة الصحيحة ومن مصادر موثقة".
وكان الرئيس ولد الغزواني قد وجه أعضاء حكومته خلال اجتماعهم يوم 11 نوفمبر الماضي "إلى العمل على تثمين المكتسبات المحققة في جميع المجالات بصورة أفضل".
ومع أن تشخيص واقع الإعلام في البلاد محل اتفاق، بل "إجماع وطني"، إلا أن الحل ليس في خلق المزيد من المؤسسات والأطر، وعناوين الإنفاق بلا طائل، والتركيز على الأشكال والمظاهر بدل الجذور، والمضامين.
فالمشكلة تعود لطبيعة العقلية التي تتعاطى جل النخب الحاكمة مع الإعلام، بعض النظر عن ما إذا كان مصدرها الجهل بطبيعة الإعلام ودوره، أو معرفة به، وبتأثيره الكبير في تعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد، وكشف الاختلالات في المجال العمومي، وما لم تتغير هذه النظرة، فلن تجدي الإجراءات الشكلية شيئا.
إن إصلاح القطاع يحتاج لإجراءات قوية، وحاسمة، وجريئة، وقد تكون مؤلمة في بداياتها، لكنها محمودة العاقبة.
وقد عنت لي مقترحات سريعة، أرى أنها يمكن أن تساهم في بدء مسار إصلاح القطاع، وهي:
1. تحديث القوانين الحاكمة للمجال الإعلامي، وتطبيقها بصرامة (هذا كفيل – إن تم - بتنقية الحقل الإعلامي)، ووقف التمييع بكل أنواعه، ويكفي لوقفه رفع الرعاية الرسمية عنه، سواء على مستوى المؤسسات الإعلامية، أو الهيئات النقابية.
2. رفع يد الحكومة عن وسائل الإعلام العمومية لتأخذ دورها كأداة خدمة عمومية، ولتتنافس مع غيرها من وسائل الإعلام بنفس الطريقة، وعلى نفس الأرضية، ولتجعل من الملتقي محور اهتمامها، وتخدم البلد، وليس الحكومات المتغيرة، وعليها وفقا لذلك أن توقع دفاتر الالتزامات المعطلة منذ عدة سنوات، وأن يكون أداؤها محل رقابة فعلية من السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية "الهابا".
3. مراجعة دور السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، وتشكلتها، ومعايير اختيار أعضائها، وإلغاء المحاصصة السياسية/الرسمية المعتمدة الآن لاختيار أعضائها، ورفع عددهم من 6 إلى 9 من ضمنهم الرئيس، واشتراط تجربة إعلامية مؤكدة، وإنتاج إعلامي موثق لعضويتها.
4. دعم وتعزيز المؤسسية في وسائل لإعلام، وجعلها شرطا أساسيا للاستفادة من التمويل العمومي، ومن غيره من الميزات.
5. إنشاء دار للصحافة، ومطابع، وشركات توزيع للصحف تضمن وصولها إلى داخل البلاد، فللصحافة الورقية رغم كل التطورات دورها في التحليلات، وفي القراءة المتأنية للأحداث، وفي التحقيقات، وفي التوثيق، ولها جمهورها الوفي، (توزيع الصحف اليوم في البلاد – إن كتب لها الصدور - لا يتجاوز 1 إلى 2 كلم وسط العاصمة، وكل محاولات تجاوز هذا الواقع الغريب لم تكلل بالنجاح).
6. إكمال الترسانة القانونية الحاكمة للمجال الإعلامي بإصدار قانون للنفاذ إلى المعلومات يفرض على الجهات الرسمية توفير المعطيات للرأي العام عبر منحها للإعلاميين تحت طائلة العقوبة.
7. أن ينهض القضاء بدوره في التعاطي مع "التبليغ بالجرائم عبر الإعلام"، وذلك بفتح النيابة العامة تحقيقا في الجرائم التي يتم نشرها دون انتظار شكايات شخصية أو تقليدية. فمهمة القضاء إقامة العدالة، ومن إقامة العدالة معاقبة المجرمين (قال لي أحد قدماء الإعلاميين إن القانون الموريتاني يعتبر النشر تبليغا، وبودي لو صحح القانونيون ذلك).
وأتوقع أن يحمل تقرير لجنة إصلاح الصحافة مقترحات جادة في هذا المجال، كما أن تقارير الأيام التشاورية المنظمة 2016 حملت هي الأخرى العديد من المقترحات الإصلاحية، وبالتالي، فما يحجز عن أخذ سكة الإصلاح هو الإرادة، والإرادة فقط.