اليوم الثلاثاء أعلن عن مقتل "مارشال تشاد" بعد يوم واحد من إعلان فوزه المؤقت بمأمورية سادسة، كان يأمل أن تكون بوابة لحكم البلاد لستة أعوام جديد، تضاف لأكثر من ثلاثة عقود، أمضاها الرجل في سدة الحكم.
"طريد الجنايات" الذي خاطب شعبه قبل أقل من سنة، بالقول إنه يعرف "كيف ينتصر في المعارك"، ويعرف "ما هي الخدمة العسكرية" كما يعرف "الحرب والقواعد التي تحكمها"، مذكرا بأنه كان جنديا قبل أن يصبح جنرالا، خسر اليوم معركته الأخيرة بموته متأثرا بجراح في مواجهات غامضة، قتل هو فيها رغم إعلان جيشه كسبها.
كلمات ديبي، كانت بمناسبة احتفائه بالفوز بلقب ورتبة "مارشال تشاد" في تصويت للبرلمان يوم 26 يونيو 2020، كانت نتيجته صافية لصالح "المارشال"، حيث كانت نتيجة التصويت بـ"لا" صفر، وكذا نتيجة الامتناع عن التصويت.
العسكري، الذي تدرج في الرتب العسكرية، وواجه الموت عيانا عدة مرات قبل أن يفتك به اليوم، وصل حكم البلاد نهاية العام 1990، حيث تلاقت في دعمه إرادتا نظامين إقليمين فاعلين، هما النظام الليبي، والسوداني، كما حصل على دعم فرنسي قوي، مكنه من دخول انجامينا، والإطاحة بحكم سلفه، و"صانعه" حسين حبري.
G5 في عمق العاصفة
وأيا، كان تأثير الحادث الغامض الذي جرى اليوم على تشاد كبلد تسوده الصراعات منذ عقود، فإن تداعيات مقتل المارشال ستتجاوزه، إلى محيطه الإقليمي، وتحديدا مجموعة الدول الخمس بالساحل G5، والتي تولى ديبي رئاستها الدورية فبراير الماضي.
كما ستتأثر الدول المحيطة به، والتي كانت قواته جزءا من معادلة "الأمن والاستقرار" فيها، وخصوصا نيجيريا،
مواجهة الحركات المسلحة فيها، وخصوصا في نيجريا، والكاميرون، والنيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، وإفريقيا الوسطى.
فالرجل الذي عاش حياة كلها صراع، ومواجهات مفتوحة، قبل أن تختتم اليوم في ظروف غامضة، غادر وهو في محور "المسؤولية" عن الأمن في منطقة الساحل والصحراء، فهو الرئيس الدوري للمجموعة التي أعلن عن إنشائها 2014 من نواكشوط، وكان إعلانه عن إعادة الدفع بكتائب من جيشه إلى الشمال المالي في ختام قمة المجموعة في انجامينا منتصف فبراير 2021 مبعث تفاؤل في صفوف الدول الأعضاء، وحتى الأطراف الدولية الفاعلة في المنطقة، وجاء قراره الجديد استئنافا لقرار أعلنه إبريل 2020 بوقف إرسال جنوده إلى الخارج.
ولا شك أن مقتله في هذه الظروف الغامضة، والمرحلة التي أوصل حكمه إليها البلاد، ستؤثر كثيرا على دورها الإقليمي، وقد تحتاج فترة قبل استقرار الأوضاع فيها لصالح طرف من الأطراف المتكاثرة الطامحة لحكم البلاد.
على حافة الفشل
يصنف البلاد الذي استقل عن الاستعمار الفرنسي في العام 1960 من بين أفقر البلدان عالميا، ويواجه مشاكل كثيرة على مستوى الحكامة الرشيد، انعكست بشكل كبير على الأوضاع فيه، فقرا مدقعا، وتدنيا في الخدمات الأساسية من مياه صالحة للشرب، وكهرباء، وتعليم وصحة.
كما أسهم الفساد السائد في الطبقة الحاكمة، وفي محيط الرئيس تحديدا في مضاعفة معاناة السكان، وفي تردي البلاد في قاع التخلف، حيث قدرت تقارير دولية حجم الأموال التي نهبتها المجموعة المقربة من الرئيس بأكثر من 10 مليارات دولار.
وكانت السلطة وهيلمانها وامتيازاتها – كما كانت دائما – مصدر صراع دائم تجاوز الأطر السياسية القائمة إلى الأطر القلبية والعرقية، والتي وصلها تلاعب المارشال، من خلال محاولة إحداث تغيير داخل البنى القبلية للبلاد.
كما وصل الصراع في مراحله الأخيرة البيت الرئاسي، حيث كان "أرث الرجل" محل تنازع بين زوجته هيندا ديبي اتنو (هندة محمد إبراهيم) ومحيطها المتنفذ، وأبناء الرجل قبلها الحاضرين بقوة في قيادة المؤسسة العسكرية، وهو صراع قد لا يعدم المتعمق فيه مؤشرات على مستوى من التنافس الأمريكي الفرنسي في المنطقة.
خذلان فرنسي
الجديد في مشهد اليوم، هو "خذلان" فرنسا للمارشال، خلافا لتجارب سابقة، كانت القوات الفرنسية فيها حاضرة لحماية حكم المارشال، وإعادته إلى السلطة، كما حدث 2005، و2008 والتي وصل المتمردون فيها إلى بوابة القصر الرئاسي انجامينا، وكذا 2019.
فرنسا، كانت صريحة في دعمها للمارشال الذي تصفه بـ"الحليف الرئيس في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل"، وقد صرحت بذلك وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي أمام البرلمان الفرنسي.
ولم تكن التدخلات الفرنسية لصالح المارشال سوى "رد جميل" لاستعداده الدائم للاندفاع في الأجندات الفرنسية، والدفع بقوات بلاده إلى جانب الجنود الفرنسيين في كل حروبهم في المنطقة، وكان مشاركته في عملية "برخان" عنوانا لحجم هذا التماهي من خلال دخول الجنود اتشاديين بأعداد كبيرة إلى الشمال المالي، وانتشارها في المناطق الخطرة في أزواد.
ولئن كان "المارشال" قد أظهر مستوى من المغاضبة لاحقا، بناء على ما يراها "عدم مكافأة" على دوره الكبير في مساعي إعادة الاستقرار إلى الشمال المالي، فإن هذه المغاضبة ظلت تحت سقف "التنسيق" والتبعية، وبدت كما لو كانت ذات سقف محدود، هدفه الحصول على المزيد من الدعم، والمكاسب المادية.
ومع أن فرنسا أعلنت خلال العمليات العسكرية الحالية دعمها للجيش تشادي عبر تقديم المعلومات الاستخباراتية، والدعم الميداني خصوصا الطبي منه، فإن التطورات الميدانية تثبت حصول اختلاف جذري في طبيعة التعاطي الفرنسي مع الأحداث في هذا البلاد، وهو تطور قرأته الحركات المسلحة المناوئة لديبي، فدعت فرنسا علنا للوقوف على الحياد في هذا الصراع.
ورغم مرور ساعات على إعلان مقتل ديبي، وإعلان مجلس عسكري جديد يقوده نجله (خلافا لما ينص علية الدستور من تولي رئيس البرلمان للسلطة مؤقتا)، وإعلان المجلس إجراءات من بينها تحديد فترة انتقالية سيحكم لمدة 18 يوما، فلم يصدر أي موقف رسمي من فرنسا إلى الآن.
ومن الواضح أن فرنسا، أدركت – ولو متأخرة – حجم الاستياء الشعبي من تدخلاتها في شؤون الدول الإفريقية، فآثرت التريث، في إعلان موقف من التطورات في تشاد، إمساكا للعصا من الوسط، في انتظار جلاء الأمور أكثر، أو تفاديا لتحمل ضريبة موقف معلن، سيضاف للعديد من المواقف التي تصنف كتجاوز على سيادة، ومصادمة للإرادة الشعبية فيها.
وعلى العموم، فلا شك أن مقتل "حارس الساحل" هو آخر ما كان يتمناه قادة دول المنطقة، فهذا "الحدث الكبير" سيترك بصمته على الأمن والاستقرار في تشاد أولا، وعلى منطقة الساحل، والغرب الإفريقي بشكل عام، وقد لا يكون من المبالغة توقع أن تكون تداعياته شبيهة بتداعيات مقتل القذافي، على الأقل في جوانبها المتعلقة بالاستفادة من وفرة السلاح، وتصاعد الأجندات القبلية، وعبور الصراعات للحدود القائمة، وتعرض التجمع الإقليمي الأبرز في المنطقة لضربة قوية، إن لم تكن قاضية.