كلمة الإصلاح في عادتها ولله الحمد أنها لا توجه قلمها في شهر رمضان المبارك إلا بالحث علي الإنفاق في سبيل الله في السنة كلها ولا سيما في شهر رمضان المبارك.
وذلك تأسيا بما كان يفعله النبي صلي الله عليه وسلم في خصوصية هذا الشهر العظيم: فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرءان فلرسول الله صلي الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وهذا الجود كما هو طبيعته صلي الله عليه وسلم المتصف بها والتي لا تفارقه كانت تزداد في رمضان كما في الحديث إلا علة ازديادها في رمضان واضحة لأنه كان كل ليلة يدارسه فيها جبريل القرءان يقرأ في هذا القرءان كثرة الحث علي هذا الإنفاق فيه، ومعلوم أنه صلي الله عليه وسلم كان خلقه القرءان بمعني وكان عندنا أوامر القرءان ونواهيه.
ولذا فان كلمة الإصلاح سوف تجعل أكثر ما تكتب في هذا الموضوع مأخوذا من الكتاب والسنة لكثرة ما جاء في القرءان والسنة من هذا التوجيه للإنفاق في سبيل الله الذي لو فهمه المسلمون حق الفهم لعلموا أن ما في أيديهم ليس ملكا بتا لهم بل للمولي عز وجل أعطاه لمن أعطاه له لينفق به على نفسه وعياله أما ما وراء ذلك فهو للفقراء والمساكين مباشرة من عطاء الله لهم ولو بواسطة المالك الأول ظاهرة يقول تعالي: {وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} ويقول: {وآتي ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل}.
وعند تتبعنا لما أنزل الله من القرءان في شأن الإنفاق على الفقراء والمساكين فسنجد به خصائص لم تأت في القرءان في أي فريضة من فرائض الله ولا في أي تطوع آخر، ومن هذه الخصائص ما يلي:
أولا: أن قضية الإنفاق على الفقراء والمساكين هي وحدها من بين طاعات الله تعالي التي ذكر في القرءان أن المشركين والكافرين سيعذبون بعدم أدائها بل بمجرد عدم الحث على أدائها وهذه الآيات التي تشير إلى ذلك تجعل كل مسلم لم يقم بذلك يضع يده على قلبه خوفا من عذابه على عدم الحث علي الإنفاق يقول تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين} ويقول تعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين} ويقول تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} ويقول تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يوتون الزكوة وهم بالآخرة هم كافرون} كل هذا التهديد والوعيد بالعذاب موجه إلى من كفر بالله وباليوم الآخر فما بالك بمن يؤمن بالله وباليوم الآخر ولا يحض على طعام المسكين، بمعني أن من يطعم المسكين فذلك لا يغنيه عن طلب الحث على إطعام المسكين فربما يكون هو ليس عنده ما يعطيه للمسكين ولكن إذا قام بالحض على إطعام المسكين فان الله سيعطيه أجر كل من أطعم مسكينا بسبب حضه هو على ذلك.
ثانيا: إن من خصائص الإنفاق أن الله طلبه مباشرة من عباده وبين لهم جزاء ذلك عنده يوم القيامة يقول الله تعالي: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط واليه ترجعون} كما أن الإنفاق في سبيل الله هو الذي تولي الله تعيين كيفية الجزاء عليه حتى ترك المسلم لو أخذ جميع العدادين وخبراء الإحصاء والمحاسبة لما استطاع أن يحدد حجم ذلك الأجر يقول تعالي: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء}، فلو فرضنا أن مكان الحبة الأوقية وزرعنا خمس فدادين فقط، وزرعنا من الإنفاق بالأوقية ما نصت عليه الآية، وبعد ذلك والله يضاعف لمن يشاء حسب نيته وحسب احتياج المنفق عليه وقرابته الخ، فإن الحاسب هنا لقدر الأجر لا يكون إلا الله تعالى كما قال تعالى: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
ثالثا: الإنفاق في سبيل الله هو الوحيد من الطاعات التي ميز الله بين علانيته وسره فنعت علانيته بأحسن عبارة تقولها العرب للأشياء المستحسنة العظيمة وهي (نعم) يقول تعالى في شأن رضائه عن صبر أيوب: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}، وهنا يقول في الإنفاق في سبيل الله: {إن تبدو الصدقات فنعما هي} ويقول في سريتها ما هو أعظم من كلمة (نعم) يقول: {وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} واتباع تكفير السيئات لهذا العطاء السري يعني أن السيئات يكفرها الله بسببه، والسيئات هنا معرفة بـ"ألـ" القمرية التي تعني الاستغراق بإذن الله تعالى، ونحن بما أن هذه الطاعة هي إنفاق ونفع من شخص إلى غيره أن تكون السيئات هنا هي ما يطالبك به الغير التي لا يغفرها إلا إذا سامح الغير أو أعطاه الله من فضله ما يختاره ذلك الغير عن ما يطالبك أنت به والله ذو الفضل العظيم.
رابعا: من خصائص الإنفاق أيضا أن الله أورد عبارة جزاء للمنفق بلفظ عبر به عن جزائه لرسول الله صلي الله عليه وسلم يقول تعالى مخاطبا الرسول صلي الله عليه وسلم بنوع من جزائه له: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وهنا يقول تعالى عن من أعطى ماله ليتزكى به بمعني ليطهر به نفسه ويزكيها يقول تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يوتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}، وكما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال عندما نزلت عليه هذه الآية إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار، فكذلك هذا الذي يرضيه الله بسبب عطاء ماله ليتزكي فلا شك أن عنده ما يقول في شأن نفسه وأسرته وأصدقائه الخ بعد أن يعطيه الله حتى يرضى.
ونظرا إلى أننا لا نستطيع تتبع ما جاء في القرءان من طلب الإنفاق علي من أمر الله أن ينفق عليه وهو الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين فإني سوف أتحول إلى بعض ما جاء في الأحاديث من سنة النبي صلي الله عليه وسلم، وأبدأ بهذا الحديث لخطورة ما جاء فيه عن الممسك ماله عن الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم اعط منفق خلفا ويقول الآخر اللهم اعط ممسك تلفا) وهذا الحديث تفسير لقوله تعالي: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك).
وأخيرا فمن المعلوم أنه لا يمكن لأي كاتب أن يكتب كل ما جاء في شأن الصدقة وكثرة الأجر التي وعد الله به عليها فلو لم ينزل فيها إلا قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} لكفى ذلك، ولكن يجب هنا أن أنبه أن الشيطان يبحث عن إبطال كل عمل يمكن أن يستفيد منه الإنسان ولا سيما إذا كانت هذه الاستفادة مكفرة للذنوب التي ساهم الشيطان بجلبه بخيله ورجله وبمشاركته لهم في الأموال والأولاد والوعد الكاذب فإنه من أكثر ما يتدخل فيه لإبطاله هو إعطاء المسلم لماله لوجه الله تعالى، فالله يقول: {الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء} ويقول المفسرون هنا إن كل لفظ فاحشة في القرءان المقصود منها العلاقات الجنسية المحرمة إلا إن الفحشاء هنا في هذه الآية تعني عدم الإنفاق: إما عدم عطائه أصلا أو إعطائه لمن لم يأمر الله بإعطائه له فهذا هو الفحشاء التي يأمر الشيطان بها في هذه الآية.
فالله تبارك وتعالي يعبر دائما في عطاء المال أو عملية الإنفاق بعبارات الحصر التي نصت عليها اللغة العربية أن لفظها بالعربية يعني الحصر ومنها لفظ "إنما" يقول تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين... الآية} ويقول كذلك: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية} فلو كانت هناك صفة يتصف بها الشخص تؤدي لإعطاء المال له لنصت عليها الآيات والأحاديث فالله قادر أن يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والأولياء والصالحين الخ، ولكن الأولياء والصالحين غير الفقراء تولى الله الإعطاء لهم في الدنيا وفي الآخرة يقول تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون} فهؤلاء الصالحون هم الذين ينفقون مما رزقهم الله خوفا وطمعا في جزائه على هذا الإنفاق ولكن الشيطان سوف لا يألو جهدا أن يخرج المال من يده ثم يكون هذا المال حسرة عليه يوم القيامة، ولذا يحذر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثل اليهود والنصارى الذين يعطون أموالهم لعبادهم الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وهذا العطاء يصدون أتباعهم عن أوامر الله تعالي في الإنفاق، يقول تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان لياكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}.