ليل الاثنين الماضي، غادر الرئيس البوركينابي روك مارك كريستيان كابوري الإقامة الرئاسية في وغادوغو في ظروف مختلفة عن الظروف التي اعتادها طيلة السنوات الست الماضية، منذ استلامه للسلطة إثر فوزه في الانتخابات التي أجريت في الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر 2015.
الرجل الذي استطاع إقناع الناخبين البوركنيابيين بمنحه مأموريتين رئاسيتين ومن الشوط الأول، وضع ضباط صغار حدا لطموحه في الأشهر الأول من سنته الثانية في ثاني مأمورياته، حيث اقتيد إلى قاعدة عسكرية كانت موطنا لخصومه السياسيين، والمتهمين بمحاولة الإطاحة بنظام حكمه.
انضم كابوري إلى قائمة طويلة من الرؤساء الأفارقة الذي غادرو كرسي الرئاسة تحت ضغط فوهات البنادق، ودفع بمقابضها، من جنود ينفذون أوامر قادتهم المباشرين، وحملت بوركينا فاسو الرقم الرابع في قائمة دول المنطقة التي تعيش مراحل انتقالية ويحكمها عساكر شباب، وذلك بعد التحاقها بمالي، وتشاد، وغيينا كوناكري.
السياسي البوركينابي الذي يزحف في عامه الخامس والستين، تدرج في المراتب والمناصب السياسية في بلاده، حتى وصل قيادة الحكومة ورئاسة الحزب الحاكم، واقترب من الرئيس السابق بليز كومباوري كثيرا رغم تباين آرائهما في بعض الملفات، قبل أن يقفز من سفينته 2014، وقد بدأت الترنح قبل أن تغرق، ليستلم السلطة في العام الموالي، ولم تتجاوز فترته في السلطة ست سنوات ليطيح بها الانقلاب الثامن في تاريخ بوركينا فاسو منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي 1960.
ولعل هذا السقوط السريع – ودون بروز أي ظهير شعبي، أو نصير خارجي جدي – لرئيس منتخب، بالكاد دخله عامه الثاني من مأموريته الثانية يفرض البحث عن العوامل التي قد تكون سببا في سرعة هذا السقوط، والتي لا تقتصر على بوركينا فاسو، وإنما توجد في جل دول المنطقة، وربما بشكل أكثر قوة وجلاء.
وتبرز ستة عوامل أرى أنها قد تكون من بين العوامل التي أدت لنجاح الانقلاب على روك كابوري، وهي:
أولا: الفشل التنموي:
فغالبية سكان بوركينا فاسو يعيشون أوضاعا اقتصادية وتنموية صعبة، لا تزيدها الأيام إلا شدة، وكان قشة ظهر بعيرها جائحة كوفيد 19، وتمدد التهديدات الأمنية وتوسعها داخل البلاد.
فقبل أكثر من عام أطلقت وكالتان أمميتان نداء قالت فيه إن نحو 3.3 مليون شخص في بوركينا فاسو يواجهون انعدام أمن غذائي حاد، انعدام الأمن الغذائي، وليس مجرد العجز، أما نسب العجز فأعلى منذ ذلك بكثير.
وأكدت الوكالتان أنه منذ آخر تقييم للوضع في بوركينا فاسو، مارس 2020 ازداد انعدام الأمن الغذائي الحاد بنسبة تزيد على 50%.
وقال المدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي وممثل البرنامج في بوركينا فاسو ديفيد بولمان، إن البلاد تشهد "تدهورا ينذر بالخطر في الأمن الغذائي في المناطق الأكثر تضررا"، متحدثا عن حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه، ومشددا على أن الوضع سيكون كارثيا إذا سحق الصراع والنزوح والجوع جيلا كاملا.
وكانت نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية انتشار الاحتجاجات في مناطق البلاد، وارتفاع الأصوات المطالبة بتغيير الواقع البائس، دون القدرة على الجزم بامتلاكها تصورا – حتى ولو كان غير واضح - حول طريقة وأسلوب هذا التغيير المرغوب.
ثانيا: الانهيار الأمني:
كما عرفت البلاد خلال سنوات حكم كابوري تمدد نشاط الحركات المسلحة إليها، واتخاذ مثلث حدودها مع مالي والنيجر نقطة ارتكاز لضرب أمن البلدان الثلاثة.
وأدت هجمات المسحلين الذين يتقاسم ولاءهم تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أو تنظيم الدولة الإسلامية إلى مقتل أكثر من 2000 شخص في بوركينا فاسنو وحدها، ونزوح أكثر من مليون ونصف مليون إنسان من أماكن سكنهم.
كما تصاعدت الهجمات خلال الأشهر الأخيرة، وأضحى قتلاها بالعشرات، فيما ساد تذمر واسع داخل الجيش وقوات الأمن بسبب ضعف التسليح، وغياب العناية بالقتلى في هذه المواجهات وأسرهم، وكذا بالجرحى الذين يصابون فيها، وذلك في تشابه - يقارب التطابق - مع مبررات ودوافع الانقلاب الذي عرفته مالي المجاورة 2012، والتي تعيش الآن تحت حكم انقلابيين نفذوا انقلابيين خلال السنتين الأخيرتين.
وأدت هذه الوضعية لهزات أمنية داخل المؤسسة العسكرية، وموجات اعتقالات تخوفا من الانقلاب الذي يبدو أنه لا منقذ منه، كما ساد الاستياء الشعبي من الفشل الأمني المزمن.
وكان واضحا أنه ما بيد الحاكمين حيلة، وأن ضيق ذاك اليد، وضغط الظروف، وتشابك الأجندات الإقليمية والدولية، وتدهور الأوضاع في المحيط، تجعل الخيار شبه الوحيد هو الانتظار، ثم الانتظار..
ثالثا: تراجع مصداقية "النموذج الديمقراطي
ثالث عوامل هذا السقوط المدوي، هو ما يمكن أن يوصف بانهيار أو تراجع مصداقية وجاذبية النموذج الديمقراطي في المنطقة، سواء على مستوى التعويل عليه في تغيير ظروف الساكنة من خلال تحسين شروط الحكامة، واستعادة السيادة، وتعزيز استقلالية القرار الوطني، ووقف الفساد الذي يشكل السبب الأبرز للواقع الذي ترزح فيه هذه البلدان، أو مستوى تجارب الشخصيات ذات الرمزية في المجال.
ففي الحقيقة، أن هذا النموذج لم تتراجع مصداقية على مستوى الوعود والبرامج التي قد يكون من الوارد أن تتأثر بالواقع وبالمتغيرات فحسب، وإنما تراجعت حتى على مستوى صورة وأداء شخصيات كانت ذات رمزية كبيرة في المنطقة، وعرفت لعقود بتصدرها لأجندات المطالبة بالديمقراطية، وتضحيتها من أجلها، وعندما وصلت للسلطة كان أداؤها باهتا، وتجربتها غير مختلفة عن غيرها، وختمتها بـ"التكفير" عن مسارها الديمقراطي من خلال محاولة الالتفاف على النصوص الدستورية، والسعي لنيل مأمورية ثالثة، ويكفي من أمثلة ذلك تجربة الرئيس السابق عبد الله واد في السنغال، وألفا كوندي في غينيا كوناكري، وحتى كابوري نفسه الذي كان من بين وعوده تغيير واقع البلاد نحو الأفضل، ووضع حد للتهديدات الأمنية التي كانت في بداياتها عندما استلم السلطة.
رابعا: ضبابية الأفق السياسي:
وقد انعكست العوامل الثلاثة السابقة، أي الفشل على المستويات الاقتصادية والتنموية والأمنية، وتراجع مصداقية النموذج الديمقراطي، والهزات الأمنية والسياسية في المحيط، على ضبابية الأفق المستقبلي عموما، والسياسي على وجه الخصوص.
فلم يعد من المجدي الرهان على طبقة سياسية متصدرة، أثبتت العقود الماضية افتقادها للإرادة والقدرة معا على إحداث التغيير، كما أن تدهور الأوضاع العامة في البلاد، والمنطقة، ولد حالة من التشاؤم الشاملة، جعلت المزاج العام منقسم بين اللا مبالاة، أو انعدام الخوف من الخسارة، لأنه لم يعد لديه ما يخسره.
وزاد الأمر سوءا مع جائحة كوفيد 19، وما تركته من أثر ووقع على أقوى الدول أحرى الفقيرة منها.
خامسا: بوادر حصار "برخان":
وفضلا عن العوامل الداخلية، أو الذ اتية، والتي تشترك فيها بوركينا فاسو مع عدة دول في المنطقة، وخصوصا أعضاء مجموعة الدول الخمس بالساحل، توجد عوامل خارجية ساهمت في تسهيل هذا التغيير الخشن في مظهره، السلس في عمقه.
ومن هذه العوامل الخارجية ما حصل شهر نوفمبر الماضي، عندما منع سكان قرية "كايا" البوركينابية قافلة إمدادات عسكرية فرنسية كانت في طريقها إلى قوة برخان الفرنسية من مواصلة طريقها إلى النيجر، حتى عادت من حيث أتت، وغيرت مسارها.
وقد أخذ الحدث زخما داخليا، وإقليميا، كما نال اهتماما إعلاميا معتبرا، وتحول أحد الأطفال الصغار في القرية إلى "بطل محلي" بعد إسقاطه طائرة "درون" حاول الفرنسيون تصوير الحشود عبرها، وعندما حلقت فوقهم لم تعد.
وشكلت هذه العملية كاشفا جديا لحجم التذمر الشعبي في دول الساحل من الوجود الفرنسي في المنطقة بشكل عام، ومستوى الإحباط من الفشل العسكري في إعادة الاستقرار، لدرجة اتهام الفرنسيين بالتعاون والتواطئ مع المسلحين بشكل صريح.
واضطرت القافلة الفرنسية بعد أيام من احتشاد الأهالي في طريقها ومنعها من التقدم للانسحاب وتغيير مسارها.
وقد يكون هذا الحادث الذي يشكل رسالة خطرة بالنسبة للفرنسيين، وراء تغاضي فرنسا عن الانقلاب، أو عدم وقوفها في وجهه، إذ رأت في "مرونة" السلطات في التعاطي مع المحتجين مؤشرا على حجم المتغيرات التي تعرفها المنطقة، و"انحناءة" من الرئيس كابوري أمام عاصفة لم يرد الوقوف في وجهها، أو ربما قدر أنه لا يستطيع ذلك، أو لا يراه له إيجابية.
وشكلت بوركينا فاسو منذ 2013 ممرا سالكا لقوافل الإمداد للقوات الفرنسية في منطقة الساحل بشكل عام، وفي مالي والنيجر بشكل خاص، وتعد مضايقة هذه القوافل أو تغيير مسارها مبعث خوف فرنسي، إذ سيشكل عبئا إضافيا ليس هو ما تحتاجه فرنسا في المنطقة اليوم.
سادسا: البحث عن البدائل:
ولعل من العوامل التي سرعت سقوط كابوري، وأدت لتخلي الفرنسيين عنه، بحثه عن عن بدائل عن فرنسا، وخصوصا على مستوى اقتناء الأسلحة والعتاد العسكري، ويبدو أن عملية البحث قادته إلى تركيا، وهي غريم تقليدي للفرنسيين، ومنافس جديد لهم في عدة ساحات، من بينها ليبيا القريبة، كما أنها قوة صاعدة في مجال الصناعات العسكرية.
وقد بدأ الجيش البوركينابي فعليا في استخدام مدرعة "كوبرا" المصنعة من قبل شركة "أوتوكار" التركية، وهي شركة متخصصة بأنظمة الدفاع البري، كما أجرت السلطات البوركينابية مباحثات مع تركيا لاقتناء مركبات ومعدات صناعية أخرى.
وفي 2019، وقع كابوري شخصيا خلال زيارة قام بها لتركيا اتفاقية تعاون في مجال الصناعات الدفاعية، عرفت بعدها صادرات أنقرة إلى بوركينا فاسو ارتفاعا وتنوعا كبيرين، حيث حققت خلال 2021 نموا بنسبة 2403%. – وفقا لوكالة الأناضول التركية -.
كما أعلنت شركة "أسيلسان" التركية – وهي إحدى أبرز شركات الصناعات الدفاعية التركية – العام المنصرم تصدير أحد منتجاتها إلى بوركينا فاسو، دون أن تكشف عن طبيعته.
ووقعت بوركينا خلال العام 2021 اتفاقية مع شركة "أسفات" الحكومية التركية، لتزويدها بآلات لكسح الألغام.
وعرفت الأسابيع الماضية مراسلة الحكومة البوركينابية للبرلمان تستحدثه على إجازة اتفاقية التعاون العسكري مع أنقرة، وخصوصا في مجال الصناعات الدفاعية.
وكان وزير الدفاع البوركينابي إيم بارتيليمي سيمبور، قد زار معرض الصناعات الدفاعية بإسطنبول أغسطس 2017، وعلى هامش هذا المعرض وقعت تركيا اتفاقية مع مجموعة الدول الخمس بالساحل، ونصت الاتفاقية على تزويد تركيا دول المجموعة بالأسلحة والذخائر.
هذه عوامل، أو "حلق" تلاقت لترمي بكابوري خارج القصر الرئاسي، وهي عوامل موجودة وإن بتفاوت في دول أخرى في المنطقة، ما يرشحها لأن تأخذ نفس المسار، وتصل إلى نفس النتيجة، إن لم تحدث متغيرات استثنائية وخصوصا على المستويين التنموي والأمني.
يضاف لهذه العوامل تصاعد التنافس الدولي على النفوذ في المنطقة، ودخول روسيا كلاعب جديد، يريد - هذا المرة – اللعب على الأرض، وتسجيل أهداف مباشرة، وربما استخدام اللعب الخشن، دون التفريط في أدوات اللعب الناعمة، مع ارتباك وتخبط فرنسي واضح، وتردد أوروبي جلي، ورغبة أمريكية في أخذ أجنداتها في المنطقة مسافة عن الأجندات الغربية عموما، والفرنسية على وجه الخصوص.