على مدار الساعة

المسار التشريعي لمعالجة مشكلة الرق في موريتانيا

25 سبتمبر, 2024 - 12:32
محمد عبد الرحمن الحسن البشير - قاض

المقدمة:

يعتبر الاستعباد أو الاسترقاق ظاهرة قديمة، ظهرت مع اكتشاف الزراعة، وبداية الاستقرار البشري، وظهور الصراعات الأولى على مصادر الإنتاج (الأرض) حيث كان يتم استغلال الأسرى لخدمة الجماعة المنتصرة بدل قتلهم، وتواترت المصادر على أنه لا توجد حضارة إنسانية لم تعرف الرق، مع تفاوت في ذلك، فقد نظمت شريعة حامورابي - 1790 ما قبل الميلاد - علاقة العبد بسيده في المواد: من 278 إلى 282.

 

وفي الحضارة اليونانية مثل الرقيق أسفل الهرم الاجتماعي، ولم يكن يتمتع بالشخصية القانونية، وليست له أي حقوق، والأمر كذلك بالنسبة للحضارة الرومانية، والحضارة العربية قبل الإسلام، ومع قدوم الإسلام، بدأ في محاولة التخفيف من حدة هذه الظاهرة، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بنظام ثوري لمكافحة الرق، تمثل في التدرج في علاج هذه الظاهرة، حيث شجعت على تحرير الرقيق في الكفارات، وضيقت أسباب الاستعباد، ودعت إلى حسن معاملة الرقيق.

 

وحتى العصرين الحديث والمعاصر ظل الرق يمثل أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، حيث يعتبر انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، فقد ظلت سفن الرقيق تمخر عباب الأطلسي طيلة فترة الاحتلال الأوربي، وحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن تجارة الرقيق عبر الأطلسي، استمرت حوالي 400 سنة، وقدر عدد ضحاياها بـ15 مليون شخص، دون أولئك الذين لقوا حتفهم أثناء الرحلات الطويلة.

 

ومع القرن الثامن عشر (18 م) بدأت تظهر الحركات الاحتجاجية المناهضة للاستعمار، والتي من أشهرها مجموعات الكويكرز (جماعة الأصدقاء الدينية) حيث كان لها دورا قويا في توجيه الرأي العام إلى مناهضة تجارة الرقيق، والضغط على الدول المستعمرة من أجل إصدار قوانين تجرم التعامل بالرق، ونتيجة لذلك أصدرت بريطانيا قانون إلغاء تجارة الرقيق سنة 1807، ومنعته في جميع مستعمراتها سنة 1833، وأما فرنسا فقد ألغت الرق في عام 1848، وتم تجريمه في الولايات المتحدة الأمريكية 1808.

 

في نهاية القرن الثامن عشر (18م) ومطلع القرن التاسع عشر (19م)، تكاثفت الجهود الدولية لمناهضة الرق، خصوصا مع إعلان فينا لسنة 1815، حيث عقدت عصبة الأمم المتحدة المؤتمر الدولي حيث قررت إلغاء العبودية بشتى أشكالها، ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام الدولي أصبح مركزا على أنماط حديثة من الرق، وذلك من خلال الاتفاقيات المناهضة لأنماط معينة من استغلال البشر، وتحديدا الاستغلال الجنسي، والعمل القسري (السخرة).

 

وبالنسبة للدول العربية فقد تم إلغاء وتجريم الرق متأخرا، ومرد ذلك خضوع الدول العربية للاحتلال الأوربي. وعلى المستوى الوطني فلم يحدث أي تحول اجتماعي يذكر مع ميلاد الدولة الوطنية الحديثة عهد بالاستعمار، ذلك أن "جل الذين تناولوا نشأة الدولة في موريتانيا اعتبروها تمثيلا سياسيا واجتماعيا لعلاقات القوة التي كانت سابقة عليها، وأنها - أي الدولة - أدت دور الضامن للنظام الاجتماعي، وخاصة الصلات الموضوعية مع الأرستقراطية التقليدية" هذه الوضعية أدت إلى ظهور حركات احتجاج وطنية ذات أيديولوجيات مختلفة، كحركة "تحرير وانعتاق لحراطين" التي ساهمت جهودها في إصدار الأمر القانوني رقم: 81-234 الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1981 والذي يعتبر أول تشريع يلغي الرق، ويجبر الملاك على تحرير عبيدهم مقابل تعويض من الدولة.

 

وسنحاول من خلال هذا المقال رصد المسار التشريعي الوطني لمعالجة ظاهرة الاستبعاد، من خلال التعريف بالاستعباد، والتعرض لمختلف المراحل التي مر بها، لإلغائه، وتجريمه، واعتباره جريمة ضد الإنسانية لا تتقادم، وإنشاء محاكم خاصة به، وتحديد يوما وطنيا لمناهضته، وإنشاء وكالة وطنية لمكافحة مخلفاته.

 

 أولا: الإطار المفاهيمي لجريمة الاستعباد: 

يشمل مفهوم الاستعباد المفهوم التقليدي للاستعباد إضافة إلى بعض الممارسات الشبيهة بالرق، والتي اعتبرها جانب من الفقه تمثيلا للاستعباد في صورته الحديثة.

 

1. الاستعباد:

لم يعرف المشرع الوطني الاستعباد في الأمر القانوني رقم: 81-234 الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1981، بيد أنه عرفه في المادة: 2 من القانون رقم: 2007-048 بأنه: "ممارسة أي من السلطات المترتبة حق الملكية أو هذه السلطات جميعا على شخص فأكثر" ونفس هذا التعريف أقره القانون رقم: 2015-031 في المادة: 3.

 

وعرفته الاتفاقية الخاصة بالرق لسنة 1926 في مادتها الأولى بأنه: "حالة أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية كلها أو بعضها".

 

 كما أكدت على التعريف السابق للاستعباد، الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرق لسنة 1956 التي عرفت الاستعباد في مادتها السابعة على أنه: "وصف لحال أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية".

 

2. القنانة:

لم يتعرض المشرع الوطني في الأمر القانوني رقم: 81-234 والقانون رقم: 2007-048 لتعريف القنانة، بينما عرفها في القانون رقم: 2015-031 في المادة 3 بأنها: "وضعية أي شخص يكون ملزما بالقانون، أو العادة أو الاتفاق، بالعيش والعمل على أرض تعود ملكيتها لشخص آخر وأن يقدم لهذا الأخير، مقابل أجرة أو مجانا بعض الخدمات المحددة بدون أن تكون له إمكانية تغيير وضعيته".

 

كما عرفتها الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956، على أنها "حال أو وضع أي شخص ملزم بالعرف أو القانون أو عن طريق الاتفاق، بأن يعيش ويعمل على أرض شخص آخر وأن يقدم خدمات معينة لهذا الشخص، بعوض أو بلا عوض، ودون أن يمتلك حرية تغيير وضعه".

 

3. إسار الدين:

عرفت المادة: 3 من القانون رقم: 2015-031 إسار الدين بأنه: "حالة أو وضعية ناتجة عن التزام مدين بأن يقدم من أجل ضمان دين خدماته الشخصية أو خدمات شخص له سلطة عليه، إذا كان القيمة العادلة لهذه الخدمات غير مخصصة لتغطية هذا الدين أو إذا كانت هذه الخدمات ليست لها مدة محددة وطابع معروف".

 

عرفت الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956 إسار الدين على بأنه "الحال أو الوضع الناجم عن ارتهان مدين بتقديم خدماته الشخصية أو خدمات شخص تابع له ضمانا لدين عليه، إذا كانت القيمة المنصفة لهذه الخدمات لا تستخدم لتصفية هذا الدين أو لم تكن مدة هذه الخدمات أو طبيعتها محددة".

 

4. العمل الجبري (السخرة):

عرفت المادة: 5 من القانون رقم: 2004-017 المتضمن مدونة الشغل العمل الإجباري بأنه العمل الذي "يطلب بواسطته عمل أو خدمة من شخص تحت تهديد توقيع عقوبة ما، ولا يقدمه هذا الشخص بمحض إرادته"

 

كما عرفته الاتفاقية رقم: 29 بشأن العمل الجبري أو الإلزامي - والتي صادقت عليها موريتانيا – في المادة: 2 بأنه: "كل أعمال أو خدمات تغصب من أي شخص تحت التهديد بأي عقوبة ولم يتطوع هذا الشخص بأدائها بمحض اختياره".

 

واعتبر القانون رقم: 2003-025 المتضمن معاقبة الاتجار بالأشخاص في مادته الأولى أن العمل الإجباري يعتبر من مشمولات جريمة الاتجار بالأشخاص حيث نصت هذه المادة على أن الاستغلال يشمل "العمل بدون أجر والعمل أو الخدمات الجبرية وكذلك التصرفات المشابهة". كما اعتبرته المادة: 3 من القانون رقم: 2015-031 من مشمولات جريمة الاستعباد بقولها "يشمل الاستعباد. كل أنواع العمل الإجباري".

 

كما نصت المادة: 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المنشور في الجريدة الرسمية، عددها رقم: 1326 لسنة 2014 على منع السخرة بقولها: "لا يجوز إكراه أحد على السخرة، أو العمل الإلزامي".

 

5. الأعراف التي تجعل من المرأة أو الطفل محلا للاستغلال:

تستند هذه الممارسات اللا إنسانية لبعض الأعراف المجتمعية القديمة، وقد عبر عنها المشرع الوطني في المادة: 3 من القانون رقم: 2003-025 بعبارة "الوضع" حيث نصت على أن: "الوضع: ممارسة من خلالها:

- يوعد بإعطاء، أو تزويج امرأة، دون أن يكون لها الحق في الرفض، مقابل عوض نقدي أو عيني يدفع لأهلها، أو وليها، أو أسرتها أو أي شخص أو مجموعة من الأشخاص،

- تعطى امرأة أو يحاول إعطائها بعوض أو بصفة أخرى من طرف زوجها أو أسرتها،

- توريث امرأة عند موت زوجها لشخص آخر،

- يتم إعطاء طفل سواء من طرف أبويه أو أحدهما أو من طرف وليه للغير بمقابل أو بدونه من أجل استغلاله بدونه أو إخضاعه للعمل".

 

كما حدت الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956 بعض الممارسات التي تصنف على أنها شبيهة بالرق وهي:

- الوعد بتزويج امرأة، أو تزويجها فعلا، دون أن تملك حق الرفض، ولقاء بدل مالي أو عيني يدفع لأبويها أو للوصي عليها أو لأسرتها أو لأي شخص آخر أو أية مجموعة أشخاص أخرى (زواج الخنوع)،

- منح الزوج أو أسرته أو قبيلته حق التنازل عن زوجته لشخص آخر، لقاء ثمن أو عوض آخر،

- إمكان جعل المرأة لدى وفاة زوجها إرثا ينتقل إلى شخص آخر،

- تسليم طفل مراهق دون الثامنة عشرة (18) إلى شخص آخر، لقاء عوض أو بلا عوض، بقصد استغلال الطفل المراهق أو استغلال عمله.

 

 ثانيا: إلغاء وتجريم الاستعباد: 

وطنيا مرت قضية الرق بمراحل تشريعية، حيث تم إلغاء الرق ضمنيا في الدساتير الوطنية، ثم تم إلغاءه من خلال الأمر القانوني رقم: 81-234، دون تجريمه، ليتم تجريمه فيما بعد، واعتباره جريمة ضد الإنسانية.

 

1. إلغاء وتجريم الاستعباد من خلال الدساتير:

مبدئيا، يمكن القول إن الدساتير الموريتانية بصفة عامة (من دستور 1961 - 1991)، ألغت الاستعباد ضمنيا، وذلك من خلال نصها على مبدإ المساواة، من جهة، وتمسكها بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية. حيث يمثل مبدأ المساواة أساس دولة القانون، وقد نصت المادة الأولى من دستور 1991 على ما يلي: "تضمن الدولة لكافة الموطنين المساواة أمام القانون دون تمييز في الأصل والعرق والجنس والمكانة الاجتماعية". ولا شك أن هذا المبدأ لا يدع مجالا للرق، حيث يقوم هذا الأخير على التراتبية الاجتماعية، وخضوع العبيد لأسيادهم، وهو ما يتنافى مع المادة السابقة.

 

ومن جهة أخرى فقد التزم المشرع الدستوري الموريتاني باحترام المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، (الفقرة الثالثة من الدستور 1991 الموريتاني)، واتخذ من المواثيق الدولية نصوصا معيارية، فنص دستور 1991 في ديباجته على أنه: "كما يعلن [الشعب] ...تمسكه بالمبادئ الديمقراطية الواردة تحديدا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 10 ديسمبر 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر 28 يونيو 1981".

 

وانطلاقا من هذه الإحالة، فيمكن القول إن تجريم الاستبعاد في موريتانيا تم من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص في مادته الرابعة على أنه: "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهم". والمادة: 5 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، التي تنص على أنه: "لكل فرد الحق في احترام كرامته والاعتراف بشخصيته القانونية، وحظر كافة أشكال استغلاله وامتهانه واستعباده خاصة الاسترقاق والتعذيب بكافة أنواعه والعقوبات والمعاملات الوحشية أو اللاإنسانية أو المذلة".

 

يبدو أن إلغاء الرق من خلال النص على مبدأ المساواة، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ومن خلال الأمر القانوني رقم: 81-234، لم يلب طموحات التوجه الحقيقي المناهض للاستعباد، والذي ازداد حدة بعد ثورات الربيع العرب، وزيادة التصعيد من قبل الحركات الحقوقية ابتداء من سنة 2011، بدعوى تحرير الأرقاء السابقين.

 

وفي هذا السياق الذي يطبعه التوتر، وبعد صدور قانون 2007، الذي يجرم الرق لأول مرة في موريتانيا، تم التأكيد على هذا التوجه دستوريا، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة: 13 من دستور 1991 على أنه: "لا يجوز إخضاع أحد للاسترقاق أو لأي نوع من أنواع تسخير الكائن البشري أو تعريضه للتعذيب أو للمعاملات الأخرى القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة. وتشكل هذه الممارسات جرائم ضد الإنسانية ويعاقبها القانون بهذه الصفة" (التعديل الدستوري رقم: 015 - 2012 المتعمق بمراجعة دستور 20 يوليو 1991).

 

هذا التوجه الدستوري انعكس بدوره على النصوص القانونية اللاحقة له، حيث اعتبرت الرق جريمة ضد الإنسانية، وغير قابلة للتقادم.

 

2. تجريم الاستعباد بنصوص خاصة:

لقد تم إلغاء الرق في موريتانيا عدة مرات، خلال مراحل سياسية مختلفة، بما في ذلك المرحلة الاستعمارية، حيث يرجع أول إلغاء للرق في موريتانيا 1901 حيث حظرت الإدارة الاستعمارية مطاردة العبيد، ثم ألغت الرق في كل مستعمراتها 1905، كما تم إلغاء الرق أثناء فترة الحكم الذاتي لموريتانيا 1959، وفي ظل الدولة الوطنية تم إلغاء الرق ضمنيا في كل الدساتير الوطنية، ثم بشكل صريح في الأمر القانوني رقم: 81-234، ثم جاءت ذلك مجموعة من النصوص القانونية التي ألغى بعضها بعضا، ومثل كل واحد منها إضافة نوعية في المجال، واستجابة لدعوات ومطالب دولية ومحلية.

 

أ. إلغاء العبودية من خلال الأمر القانوني رقم: 81-234:

ظهرت الإرادة السياسية الوطنية الرامية إلى إلغاء الرق في وقت مبكر من عمر الدولة الوطنية، حيث وجه وزير الداخلية والعدل تعميما إلى رؤساء الدوائر يتعلق بقضية الرق، سنة 1966، ثم التعميم رقم: 02 لسنة 1979 الصادر عن وزير العدل، والذي ظهر فيه التوجه المذكور أكثر وضوحا، حيث أمر وزير العدل رؤساء المحاكم "بتجميد جميع القضايا التي لها صلة بمسألة الرق" ذلك أن قبول النظر في هذه القضايا يعني بالضرورة الاعتراف بشرعية الاستعباد، وهو ما يناقض توجه الحكومة في ذلك الوقت.

 

بعد ذلك بدأت الحكومة البحث عن الأساس الديني لإلغاء الرق من أجل تسهيل تقبل القضية من قبل المجتمع، وتمثل هذا السعي في:

- رسالة صادرة من الأمانة الدائمة للجنة العسكرية تدعو فيها علماء البلد إلى سد ثغرة الاسترقاق،

- ورقة من إعداد العلامة محمد سالم ولد عدود - رحمه الله - تناقش مسألة الرق، موجهة من اللجنة العسكرية للخلاص الوطني إلى العلماء الموريتانيين.

 

وكان من نتائج هذه النقاشات الفقهية أن قررت الحكومة إلغاء الرق بعوض للأسياد، فأصدرت اللجنة العسكري للخلاص الوطني القرار رقم: 5 الصادر بتاريخ: 5 يوليو 1980 والقاضي بإلغاء الرق في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ثم تم تجسيد هذا القرار في الأمر القانوني رقم: 81-234 الصادر بتاريخ: 9 نوفمبر 1981 القاضي بإلغاء العبودية.

 

ورغم أهمية الأمر القانوني من الناحية التشريعية حيث ألغى العبودية (المادة الأولى)، إلا أنه عيب عليه النص على تعويض للملاك (المادة: 2) مما يعني إضفاء شرعية على ممارسة الرق التي كانت قائمة، ثم إنه اكتفى بإلغاء نظام الرق دون أن يجرمه.

 

ب. تجريم المتاجرة بالبشر من خلال القانون رقم: 2003-025:

نصت المادة: 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن الاسترقاق يعني "ممارسة أي من السلطات المترتبة على حق الملكية، أو هذه السلطات جميعها، على شخص ما بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال."

 

وعرفت المادة: 3 من بروتوكول الأمم المتحدة للاتجار بالأشخاص بأنه: "تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقي مبالغ أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال، في حده الأدنى، استغلال دعارة الآخرين أو الأشكال الأخرى للاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمات القسرية أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو نزع الأعضاء".

 

كما عرفته المادة الأولى من القانون رقم: 2003-025 الصادر بتاريخ 17 يوليو 2003، المتضمن معاقبة المتاجرة بالأشخاص بقولها: "يقصد بعبارة المتاجرة بالأشخاص تجنيد ونقل وتحويل الأشخاص بالقوة أو باللجوء إليها أو بالتهديد أو بأي شكل آخر من أشكال القهر عن طريق الاختطاف أو الخدع أو إساءة استعمال أو استغلال حالة الضعف أو بتقديم عرض تعويضات أو مزايا بغية الحصول على قبول شخص له سلطة على آخر من أجل استغلال هذا الأخير".

 

ونلاحظ اتساق التعريف الذي قدمه المشرع الوطني مع التعريف الذي قدمه بروتوكول الأمم المتحدة، وهو نفس الاتجاه الذي سار فيه المشرع الجزائري والعماني والإماراتي.

ويشمل الاستغلال على الأقل العمل بدون أجر والعمل أو الخدمات الجبرية وكذلك التصرفات المشابهة ونزع الأعضاء لأغراض ربحية واستغلالها بقاء الغير أو غيره من أشكال الاستغلال الجنسي.

 

وقد عاقبت المادة: 5 من القانون رقم: 2003-025 المتاجرة بالأشخاص بـ: "زيادة على حرمانهم من الحقوق المدنية والوطنية بالأشغال الشاقة المؤقتة من خمس سنوات إلى عشر سنوات أو بغرامة 500.000 إلى 1000.000 أوقية". وقررت هذه المادة نفس العقوبة لكل من "من أبرم اتفاقية بغرض التصرف في حرية شخص آخر". وإذا كان مرتكب جريمة المتاجرة بالأشخاص ينتمي إلى مجموعة جنائية منظمة، فإنه يعاقب بنفس العقوبات وبغرامة 600.000 إلى 1.200.000 أوقية.

 

ج. تجريم الاستعباد من خلال القانون رقم: 2007-048

لم يكن إلغاء نظام الاستعباد، وتحرير العبيد، بموجب الأمر القانوني رقم: 81-234 كافيا للقضاء على مشكلة الرق في موريتانيا، لأن المادة الثانية من هذا القانون، اعترفت ضمنيا بشرعية الاستعباد من خلال إقرارها تعويضا للسادة عن تحرير عبيدهم، فظلت الحاجة قائمة لتشريع يعالج النقص الملحوظ في النص السابق، فجاء القانون رقم: 2007-048 -الذي يجرم العبودية، ويعاقب الممارسات الاستعبادية – ونص ولأول مرة - على أن الاستعباد جريمة يمنعها القانون ويرتب عليها عقوبة.

 

ومثل اعتماد هذا القانون نقطة تحول في المنهج المتبع في حلحلة هذه القضية، وثورة تحررية على المستوى التشريعي، فقد صرح رئيس الوزراء في سياق عرضه لمبررات مشروع هذا القانون أن: "هذا المشروع نقطة تحول حاسمة، الهدف منها هو القضاء على جميع النقائض الموروثة من الماضي وتعزيز ثقافة المساواة والتسامح والمواطنة، وتهيئة الظروف المواتية لتقدم ونهوض جميع الموريتانيين".

 

وقد ميز هذا القانون بين مستويين من الجرائم في هذا القانون:

- الجنايات في الاستعباد: وتتمثل هذه الجريمة في استعباد شخص، أو تحفيزه على التخلي عن حريته أو شرفه، بغية استعباده، أو استعباد من يعيله، وعاقب المشرع هذه الجناية بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، وبغرامة من خمس مائة ألف أوقية (500.000) إلى مليون (1.000.000). وتعاقب المحاولة بنفس عقوبة الجريمة التامة (المادة: 4 القانون رقم: 2007-048).

 

- الجنح في الاستعباد: وتتمثل هذه الجنح في أفعال: الاضرار بالسلامة البدنية لشخص، أو سلبه ممتلكاته، أو منعه من التمدرس (الطفل) أو حرمانه من الميراث، أو إرغام امرأة على الزواج، على أن يكون الدافع لذلك هو اعتبار من وقعت عليه هذه الأفعال عبدا. هذا إضافة إلى إنتاج منتج يمجد الاستعباد، أو تمييز شخص على أساس أنه عبد. وتراوحت عقوبات السالبة للحرية في هذه الجنح ما بين أحد عشر (11) يوما كحد أدنى إلى خمس سنوات (5) كحد أقصى، وأما الغرامات فتراوحت ما بين خمسة آلاف (5000) أوقية إلى مليوني (2.000.000) أوقية.

 

ويمكن القول إن هذا القانون إلى جانب سبقه في تجريم الاستعباد، فإنه سلب الرق أي شرعية تاريخية، وذلك من خلال المادة: 16 التي ألغت المادة: 2من الأمر القانوني رقم: 81-234 التي أقرت تعويض السادة مقابل تحرير عبيدهم. ولا شك أن إلغاء هذه المادة يمثل تأكيدا قانونيا صريحا بعدم شرعية الرق في موريتانيا، إلى أنه كان مبنيا على قهر أحرار لا مسوغ لاستعبادهم.

 

د. الاستعباد جريمة ضد الإنسانية من خلال القانون رقم: 2013-011

اعتبر المشرع الفرنسي أن ممارسة العبودية أو الرق بحق أحد الأشخاص يعتبر من الجرائم ضد الإنسانية، وذلك بموجب القانون رقم: 434-2001 الصادر بتاريخ: 21-05-2001، والمعروف باسم قانون "Taubira" ليؤكد شمول الجرائم ضد الإنسانية لأفعال الرق، وهو نفس التوجه الذي أخذت به أغلب التشريعات الحديثة، بما في ذلك تشريعنا الوطني.

 

حيث جاء القانون رقم: 2013-011 الذي يقضي بمعاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفها جرائم ضد الإنسانية، نتيجة للتعديل الدستوري 2012 الذي تم بموجب القانون الدستوري رقم: 2012 - 015 بتاريخ: 20 مارس2 201، ونص هذا التعديل على أنه: "لا يجوز إخضاع أي أحد للاسترقاق أو لأي نوع من أنواع تسخير الكائن البشري أو تعريضه للتعذيب أو للمعاملات الأخرى القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية. وتشكل هذه الممارسات جرائم ضد الإنسانية ويعاقبها القانون بهذه الصفة".

 

وهو ما أكدته المادة الأولى من القانون رقم: 2013-011 حيث نصت على أن: "جريمة الاسترقاق وغيرها من أشكال تسخير الكائن البشري وجريمة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة تعتبر، طبقا لأحكام المادة: 13 جديدة من دستور 20 يوليو 1991، جرائم ضد الإنسانية.

 

كما نص نفس التعديل في المادة: 19 على أنه: "يتمتع المواطنون بنفس الحقوق ونفس الواجبات تجاه الأمة". نلاحظ أنه في هذا التعديل تمت دسترة تجريم الاستعباد، واعتباره جريمة ضد الإنسانية، مع التأكيد على المساواة وتكافئ الفرص.

 

وتعليقا على مشروع القانون رقم: 2013-011 جاء في بيان الحكومة أن هذا مشروع القانون "يدخل تحسينات هامة مقارنة بالقانون القديم ويأخذ بعين الاعتبار أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة".

 

ومن أهم الأحكام التي أتى بها هذا القانون، اعتبار الاستعباد جريمة ضد الإنسانية، واعتباره حريمة لا تتقادم، وحرمان مرتكبو هذه الجريمة والمتمالئون معهم من الحقوق المدنية الواردة في القانون الجنائي (المواد: الأولى و4 من القانون رقم: 2013-011).

 

ومما عيب على هذا القانون هو عدم تناسب العقوبة المحددة لجريمة الاستعباد (السجن من خمس إلى عشر سنوات، وغرامة من 500.000 إلى 1.000.000) مع اعتبار الاستعباد جريمة ضد الإنسانية، خصوصا أن السياسة الجنائية الوطنية تقر عقوبات أشد تصل لإعدام لجرائم أخرى.

 

هـ. تعزيز التدابير الزجرية للاستعباد بالقانون رقم:2015-031

تمت المصادقة على خارطة الطريق التي قدمتها مقررة الأمم المتحدة حول العبودية في مارس 2014، أما الحكومة فإن التزامها القوي بتعزيز الديمقراطي، ودولة القانون جعلها تتميز بتحقيق العديد من أشكال التقدم في هذا الاتجاه مما سمح للمواطنين بالاستفادة من مجموع آليات الحماية المتعلقة بحقوق الإنسان. تبعا لذلك، كانت مشاركتها في إعداد ترتيبات خارطة الطريق المتعلقة بمحاربة الاسترقاق وذلك وفق نهج توافقي. وفي مقاربتها المتعددة الأبعاد لمكافحة آثار الاسترقاق، أقرت الحكومة تدابير قانونية واقتصادية واجتماعية أسهمت في تراجع تلك الآثار.

 

حيث تم تشكيل لجنة مشتركة بين الوزارات يرأسها رئيس الوزراء وبمراقبة مفوضية حقوق الإنسان في موريتانيا، وضعت هذه اللجنة خطة لتنفيذ خارطة الطريق، واتخذت الإجراءات التالية:

- إلغاء القانون رقم: 2007-048 المجرم للرق والممارسات الشبيهة بالرق،

- تنظيم احتفال سنوي من كل عام لإحياء اليوم الوطني لمكافحة الرق،

- إقرار تحويلات نقدية للأسر الفقيرة والتي تعاني من مخلفات الرق من أجل الحاق الأطفال في سن التمدرس بالمدارس،

- وضع خطة عمل لمكافحة عمل الأطفال،

- تنظيم حملات توعية بشأن تحريم الرق.

 

وتطبيقا لهذه الخارطة (خارطة الطريق) تمت المصادقة على القانون رقم: 2015-031 الذي أحدث نقلة نوعية في مجال الاستعباد. فقد وضع المشرع من خلال هذا القانون فلسفة شاملة لاستئصال الاسترقاق، فقد أسس تجريم الرق على قيم الإسلام والمبادئ الدستورية والاتفاقيات الدولية، وانطلاقا من هذه الأسس نصت المادة الأولى من القانون على أنه: "إيمانا بقيم الإسلام ومقاصده التي جاءت لتحرير الإنسان من كل استعباد وتكريمه، واستلهامها للمبادئ الدستورية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وتجسيدا لحرية الإنسان التي يولد بها ويموت، يهدف هذا القانون إلى تعريف وتجريم ومعاقبة الممارسات الاستعبادية".

 

وقد واكب المشرع في القانون رقم: 2015-031 تطور جريمة الاستعباد، حيث أصبحت تشمل أشكالا جرمية معاصرة مثل: إسار الدين، والعمل الاجباري، وتوريث امرأة أو تزويجها إجباريا، إخضاع قاصر للعمل، ونكتفي هنا بالإشارة إلى هذه الجرائم، ونحيل إلى ما أسلفنا حولها.

 

وقد تجاوز هذا القانون المآخذ على القانون 2007-048 حيث ارتقى بعقوبة جريمة الاستعباد سواء على مستوى العقوبة الجسدية السالبة للحرية أو على مستوى التغريم. يبدو ذلك جليا من خلال مقارنة المادة: 4 بالمادة: 7 من القانون رقم: 2015-031، حيث نصت المادة: 4 على أنه: "يعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، وبغرامة من خمس مائة ألف (500.000) إلى مليون (1.000.000) أوقية كل من استعبد شخصا أو حفزه على التخلي عن حريته أو شرفه بغية استعباده أو استعباد من يعيله أو من هو في وصايته".

 

ونصت المادة: 7 على أنه: "كل من استعبد غيره أو حفزه على التخلي عن حريته أو شرفه بغية استعباده أو استعباد من يعيله أو من هو في وصايته، يعاقب بالسجن من عشر (10) سنوات إلى عشرين (20) سنة وبغرامة من مائتين وخمسين ألف أوقية (250.000) إلى خمسة ملايين أوقية (5.000.00)".

 

وقد تراوحت العبودية السالبة للحرية الواردة في القانون: 2015-031 بين ستة أشهر سنة إلى عشرون سنة، وتراوحت الغرامات المالية ما بين عشرين ألفا إلى سبعة ملايين أوقية.

 

وسنحاول تفصيل ذلك في الآتي:

-  من عشر إلى عشرين سنة، وبغرامة من 250.000 إلى 5.000.000 أوقية: ويعاقب بهذه العقوبة كل من استعبد شخصا أو حفزه على التخلي عن حريته (المادة: 7)،

- من خمس إلى عشر سنوات، وبغرامة من 500.000 إلى 7.000.000 أوقية: كل من منع طفلا من التمدرس (المادة: 13)،

- من خمس إلى ثمان سنوات، وبغرامة من 500.000 إلى 5.000.000 أوقية: وتهدف هذه العبوات أساسا على حماية المرأة، ضد نوعين من الأفعال:

كل من يرغم امرأة على النكاح دون موافقتها معتبرا أنها أمة (المادة: 15)،

كل من اعتدى جنسيا على امرأة معتبرا أنها أمة (المادة: 16).

 

- من خمس إلى سبعة سنوات، وبغرامة من 250.000 إلى 5.000.000 أوقية: وعاقب المشرع بهذه العقوبة على مجموعة من الأفعال، هي:

أفعال الوضع (المادة: 8)،

القنانة (المادة: 9)،

إسار الدين (المادة: 10)،

كل من أضر بالسلامة البدنية لشخص معتبرا أنه عبد (المادة: 11)،

كل من سلب ممتلكات أو ثمار وعائدات شخص معتبرا أنه عبد (المادة: 12)،

كل من احتال لحرمان شخص من الإرث معتبرا أنه عبدا (المادة 14)،

 

- من خمس إلى ست سنوات، وبغرامة من 200.000 إلى 4.000.000 أوقية مع المصادرة والاتلاف: كل مؤلف لإنتاج ثقافي يمجد الاستعباد، وترفع الغرامة إلى 5.000.000 إلى كان المنتج شخصا اعتباريا (المادة: 17)،

 

- من سنتين إلى خمس سنوات، وبغرامة من 500.000 إلى مليون أوقية: كل وكيل أو ضابط شرطة قضائية لا يستجيب للتبليغات المتعلقة بممارسة الاستعباد التي تصل إليه (المادة: 18)،

 

- من ستة أشهر إلى سنتين، وبغرامة من 20.000 إلى 250.000 أوقية: كل من يشتم شخصا معتبرا أنه عبد (المادة: 19).

 

وقد أحالت المادة: 15 من هذا القانون إلى المادة: 309 من القانون رقم: 162-83 فيما يتعلق بجريمة اغتصاب امرأة باعتبار أنها أمة، حيث نصت هذه الأخيرة على أنه: "يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من يحاول ارتكاب جريمة الاغتصاب، وإذا تمت الجناية فإن الجاني يعاقب بالأِشغال الشاقة المؤقتة زيادة على الجلد إذا كان بكرا، كما يعاقب بالرجم وحده إذا كان محصنا". وهذه هي أشد عقوبة تضمنها هذا القانون (بالإحالة).

 

كما أكد هذا القانون على حق الجمعيات الحقوقية بالإبلاغ عن جرائم الاستعباد والجرائم المشابهة المنصوص عليها في هذا القانون، إضافة إلى حق مؤازرة الضحايا. كما أعطى لبعض المؤسسات ذات النفع العام وأي جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي تتمتع بالشخصية المعنوية منذ خمس سنوات على ارتكاب الوقائع إمكانية رفع الدعوى والقيام بالحق المدني في كل النزاعات المتعلقة بتطبيق هذا القانون.

 

كما أعفى هذا القانون ضحايا الاستعباد من المصاريف والرسوم القضائية، ومنحهم حق المساعدة القضائية (المواد: 22-23-24).

 

ثالثا: الآليات المرفقية لمكافحة والحد من آثار الاسترقاق:

إن مجرد وجود نصوص قانونية لا يكفي للقضاء على ظاهرة اجتماعية، متجذرة، وقديمة، فكان لا بد من وجود محاكم خاصة يمكنها تطبيق هذه النصوص بكفاءة عالية، يتناسب مع خصوصية المسألة، ولا بد كذلك من برامج اقتصادية واجتماعية تقضي أو تحد من آثار الاسترقاق، اقتصاديا واجتماعيا.

 

1. المحاكم الجنائية المتخصصة في مجال محاربة الرق:

إن مقاربة القضاء على الرق ومخلفاته تقوم على ثلاث مستويات، المستوى الأول، يقوم على النصوص القانونية، وفي هذا الإطار تم استحداث القانون رقم: 2015-031، والمستوى الثاني، المستوى القضائي، والذي يتمثل في إنشاء محاكم متخصصة لمحاربة العبودية، والمستوى الثالث هو المستوى الاقتصادي والاجتماعي، الذي تسعى من خلاله الدولة إلى تخفيف والقضاء على آثار الرق، وهو ما تجسيده في وكالة التضامن.

 

وفي هذا الإطار نصت المادة: 20 من القانون رقم: 2015-031 على أنه: ""تنشأ محاكم ذات تشكيلة جماعية تنظر في الجرائم المتعلقة بالعبودية والممارسات الاستعبادية، تحدد مقراتها ودوائر اختصاصها بمرسوم". وهو ما تم بموجب المرسوم رقم: المرسوم 2016-002 المحدد للمقر ودائرة الاختصاص الترابي للمحاكم الجنائية المتخصصة في مجال محاربة العبودية.

 

لقد عكس استحداث هذه المحاكم إرادة وسعي الحكومة الموريتانية إلى القضاء على جريمة الرق، وهو ما أكده وزير العدل في خطابه في افتتاح المحكمة الجنائية الجنوبية، حيث قال: "أن بدأ العمل بهذه المحكمة يؤكد عزم الحكومة على محاربة آثار الرق، والتزامها بالمواثيق الدولية التي صادقت عليها والمضمنة في خارطة الطريق التي تعهد الوزير الأول يحيى ولد حدمين بتنفيذها".

 

نصت المادة الأولى من هذا المرسوم على أن مقر ودائرة اختصاص هذه المحاكم كتالي:

أ. المحكمة الجنائية الجنوبية المتخصصة في مجال محاربة العبودية: ويقع مقر هذه المحكمة في ولاية نواكشوط الجنوبية، ويشمل اختصاصها ولايات: البراكنة، كوركل، الترارزة، تكانت، إنشيري، نواكشوط الغربية، نواكشوط الشمالية، نواكشوط الجنوبية.

ب. المحكمة الجنائية الشمالية المتخصصة في مجال محاربة العبودية: ويقع مقرها في نواذيبو، ويشمل اختصاصها التراب ولايات: آدرار، داخلت نواذيبو، وتيرس الزمور،

ج. المحكمة الجنائية الشرقية المتخصصة في مجال محاربة العبودية: ويقع مقرها في النعمة، ويشمل اختصاصها الترابي ولايات: الحوض الشرقي، الحوض الغربي، العصابه، كيدي ماغا.

 

ولم ينص القانون على إجراءات جزائية خاصة بهذه المحكمة، وإنما تحكم مسار الدعوى أمامها القواعد الإجرائية المتبعة، مع الأخذ بعين الاعتبار "الترتيبات التشريعية الأخرى المعمول بها" (المادة: 2 من المرسوم السابق).

 

وقد اعتبر المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان في تقريره لسنة 2019 أن دور هذه المحاكم "لا يزال هزيلا، حيث أريد لها ذلك على ما يبدو، بسبب ضعف بنيتها المادية والبشرية، فهي لا تمتلك قضاة تحقيق ولا شرطة مختصة، على غرار نظيراتها المعنية بقضايا القصر والفساد والإرهاب والمخدرات مثلا وفي ظل ميزانيات عمل زهيدة، وطاقم قضائي لم يخضع لأي تكوين في مجال هذا النوع من القضايا الجنائية".

 

هذا إضافة إلى التوصيات التي خلص إليها تقرير الخارجية الأمريكية عن الاتجار بالبشر في موريتانيا 2019: "الاستمرار في زيادة التمويل لمحاكم مكافحة الرق، والتأكد من أن كل محكمة من محاكم العبودية مزودة بشكل مناسب بمدع عام متخصص (ممثل النيابة)، وقاضي تحقيق، وقاضي محاكمة، وتدريب المدعين العامين والمسؤولين القضائيين عل كل من قانون مكافحة الاتجار لعام 2003، وقانون مكافحة الرق لعام 2015. الحد من تناوب القضاة الذين يجلسون في محاكم مكافحة العبودية الثلاثة لضمان امتلاكهم الخبرة الكافية التي تمكنهم من الاضطلاع بواجباتهم على نحو فعال وفقا لقانون مكافحة الرق لعام 2015".

 

ويبدو أن المشرع الوطني لاحظ ما تقدم من ملاحظات بخصوص محاكم مكافحة الاسترقاق، وهو ما جعله يقوم بإنشاء محكمة ابتدائية واحدة لها اختصاص واسع يشمل الرق والاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين.

 

وجاء في عرض الحكومة لمشروع القانون أنه: "يهدف مشروع القانون الحالي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف والمبادئ، تتعلق بتحسين سير العدالة وضمان الولوج إلى العدالة في معالجة قضايا الجريمة العابرة، والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، وذلك عن طريق إدخال بعض الإصلاح على عدد وهيكلة سير المحاكم المتخصصة لمحاربة الجريمة والممارسات المستجدة، المنشأة بموجب القانون رقم: 2015-031 الصادر بتاريخ: 10 سبتمبر 2015، المتعلق بمحاربة الجريمة العابرة والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، والذي مضى على تطبيقه أكثر من خمس سنوات. وأظهرت الممارسات القانونية وجود حاجة ملحة للإصلاح والتقويم، وعليه جاء هذا المشروع".

 

ونصت المادة الأولى من هذا القانون على أنه: "تنشأ محكمة من درجة أولى، ذات اختصاص وطني، مقرها في نواكشوط الغربية، تدعى المحكمة المتخصصة لمحاربة العبودية والاتجار الأشخاص، وتهريب المهاجرين".

 

وتتكون هذه المحكمة من تشكيلتين:

أ. التشكيلة جماعية: تتكون من ثلاثة (3) قضاة، رئيس ومستشارين لهما صوتان استشاريان، وتنظر هذه التشكيلة في الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن لمدة تزيد على خمس (5) سنوات. كما تختص هذه التشكيلة في الجرائم المتركبة من طفل دون الثامنة عشر (18) والتي تدخل في اختصاص هذه المحكمة (المادة: 7 من نفس القانون)،

ب. تشكيلة القاضي الفرد: وتنظر هذه التشكيلة في الجرائم التي يعاقب عليها بالحبس لمدة أول أو تساوي خمس (5) سنوات، دون حد للغرامة أو التعويض (المادة: 7 من نفس القانون)،

 

تتعهد هذه المحكمة من وكيل الجمهورية المتخصص في حالة التلبس أو الإحالة المباشرة، أو عن طريق أمر الإحالة صادر عن قاضي تحقيق، أو أي محكمة مختصة، أو عن طريق عريضة للقيام بالحق المدني من طرف الضحية أو أي شخص مؤهل لذلك (المادة: 8).

 

وتكريسا لمبدأ تقريب القضاء من المواطن، وعدم نقل الشخص عن قاضيه الطبيعي، نصت المادة: 9 من هذا القانون على أن المحكمة المتخصصة لمحاربة العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين تعقد جلساتها علنية في الدائرة الإدارية أو البلدية للمكان الذي ارتكبت فيه الجريمة. غير أنه إذا كانت هناك ظروف خاصة تستوجب ذلك، يمكن لرئيس المحكمة بأمر مسبب أن يقرر انعقاد جلسة المحكمة خلف أبواب مغلقة وفي أي مكان آخر (المادة: 9).

 

2. وكالة التضامن:

إن مكافحة الرق، تتطلب إلى جانب سن قوانين رادعة وزاجرة، ومحاكم متخصصة، تتطلب وجود جهود رسمية موجهة للقضاء على آثار هذه الظاهرة، وهو ما تم تجسيده في المرسوم رقم: 2013-048 الصادر بتاريخ، 28 مارس 2013 المتضمن لإنشاء مؤسسة عمومية تدعى "الوكالة الوطنية التضامن لمحاربة مخلفات الرق وللدمج ولمكافحة الفقر". وتتمتع هذه الوكالة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري (المادة الأولى من المرسوم أعلاه). أي أن استحداث هذه الوكالة جاء "كترجمة لإرادة الدولة في ضمان استخدام أمثل للموارد الموجهة لجهود مكافحة الفقر وللولوج السريع للمهمشين إلى بنية تحتية وخدمات جيدة".

 

وفي مجال مكافحة الرق وبالتشاور مع الفاعلين في المجال، تقوم وكالة التضامن باقتراح البرامج التي من "شأنها القضاء على مخلفات الرق، وضمان تنفيذها"، إضافة إلى إمكانية ممارستها للحقوق المعترف بها للطرف المدني في قضايا الاستعباد (المادة: 2 من نفس المرسوم).

 

وقد قامت هذه الوكالة بتشخيص مقبول لإشكالية الفقر، وبلورت خطة لاستهداف عشرات آلاف السكان في مناطق مختلفة. ويعتبر مشروعها "السجل الاجتماعي الموحد للأسر الفقيرة" إضافة مهمة. كما أنها أسست أيضا، مدارس وبنت مستشفيات، وساهمت في العمل الحكومي فيما يخص مكافحة الفقر بشكل أفضل نسبيا مما كان حاصلا من قبل.

 

3. اليوم الوطني لمحاربة الممارسات الاستعبادية:

نصت المادة: 2 من القانون رقم: 2015-031 على أنه: "يكرس يوم وطني لمحاربة الممارسات الاستعبادية"، وهو ما تم تجسيده في المرسوم 2016-077، الصادر بتاريخ 15 ابريل 2016، والذي يكرس يوما وطنيا لمحاربة الممارسات الاستعبادية، ويوافق هذا اليوم 6 مارس من كل سنة (المادة: 2 من المرسوم أعلاه).

 

ونصت المادة: 4 من هذا المرسوم على أنه يتم في هذا اليوم "القيام بتظاهرات ثقافية ورياضية واحتفالات أخري تهدف إلى إبراز الجهود المتخذة من قبل السلطات العمومية والأحزاب السياسية والمجتمع المدني من أجل محاربة الممارسات الاستعبادية."

 

ويتم ذلك "تحت إشراف مفوض حقوق الانسان والعمل الإنساني والمجتمع المدني"، (المادة: 5 من نفس المرسوم).

 

ويعتبر "تخليد هذا اليوم تعبيرا صادقا عن الإرادة الصارمة للحكومة وعزمها على مواصلة الجهود الرامية للقضاء على مخلفات الاسترقاق، وأشكاله المعاصرة تماشيا مع السياسة الوطنية في مجال ترقية وحماية حقوق الإنسان من جهة، ووفاء لالتزامات موريتانيا الدولية من جهة أخرى".

 

وإجمالا، يمكن القول إن مشكلة الرق، من أولويات العدالة الانتقالية، ورغم كونها قديمة ومتجذرة، إلا أن المشرع الوطني حاول معالجتها، من خلال إلغاء، ثم التجريم، ثم اعتبارها جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم، ثم إنشاء محاكم خاصة لمكافحة هذا النمط الإجرامي الخاص، ثم إنشاء وكالة وطنية لمحاربة مخلفات هذه الظاهرة، وتحديد يوما وطنيا للتحسيس والتعريف بهذه الجريمة.