سيكون يوم الأربعاء القادم (8 نوفمبر) يوما حاسما في مسار حراك النصرة وفي ملف كاتب المقال المسيء، ولأنه لم يعد يفصلنا عن هذا اليوم الحاسم إلا ثلاثة أيام، فقد يكون من المهم جدا أن نتوقف مع مسار هذا الحراك الذي تعرض لمؤامرات كبرى من أطراف عدة.
النصرة من "زعيم الأحباب" إلى "محامي الجناب"
في يوم 10 يناير من العام 2014 خرجت جماهير غفيرة إلى القصر الرئاسي مطالبة بمحاكمة كاتب المقال المسيء. كان الحشد كبيرا وعفويا، وكان لا بد من فعل شيء ما لإفشال هذا الحراك الكبير الذي انخرطت فيه ـ وبشكل عفوي وفي وقت قياسي ـ أعداد كبيرة من الموريتانيين.
في ذلك اليوم اهتزت أسوار القصر الرئاسي بفعل الحشود الكبيرة، وأحس الرئيس بخطورة الأمر، فلم يكن منه إلا أن وضع عمامته الزرقاء، وخرج في الناس خطيبا، فقال: "أيها المواطنون، أيها المسلمون، أشكركم كل الشكر على تواجدكم في هذا المكان تنديدا بهذا الإجرام الذي اقترفه شخص في حق ديننا الإسلامي، دين دولتنا، دين الجمهورية الإسلامية الموريتانية. وكما أكدت لكم في الماضي أؤكد لكم اليوم مجددا أنها ليست دولة علمانية، وأن ما قمتم به اليوم هو أقل ما يمكن القيام به، رفضا لهذا الإجرام في حق ديننا الحنيف، وأطمئنكم أنني شخصيا والحكومة لن ندخر جهدا من أجل حماية هذا الدين ومقدساته، وعلى الجميع أن يفهموا أن هذه الدولة دولة إسلامية وأن الديمقراطية لا تعني المساس بالمقدسات".
طمأن الرئيس تلك الحشود الكبيرة، وقدم لها وعودا مغرية، وذلك في وقت كان قد بدأ فيه العمل من أجل وضع خطة محكمة لإفشال هذا الحراك المقلق.
وُضِعَت الخطة بإحكام، وكانت تسعى إلى تحقيق هدفين في غاية الأهمية، أولهما كان في غاية الاستعجال، وهو أن يتم توجيه الحشود إلى مكان آخر غير القصر الرئاسي، فقد كان من المقلق أن تتجه مسيرة أخرى بمثل ذلك الحشد الكبير إلى القصر الرئاسي. أما الهدف الثاني، فإنه لم يكن في غاية الاستعجال، ولكنه كان في غاية الأهمية، ويتمثل هذا الهدف في زرع الشقاق والخلاف بين الجموع المكونة لحراك النصرة.
بدأ تنفيذ الخطة بشكل عاجل، وتم إطلاق إشاعة تقول بقدوم الأستاذ الجليل "محمد ولد سيدي يحيى"، ففتحت له طريق بين الحشود. لم يظهر "ولد سيدي يحيى"، وإنما ظهرت سيارة تحمل جماعة غير معروفة كان من بينها من يلوح بيده للمحتجين، وهذه الجماعة التي ظهرت فجأة هي التي ستتسمى مستقبلا بـ"أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وسيوكل لزعيمها مهمة إفشال الحراك.
ولأن الحراك كان عفويا، ولأنه لم يكن منظما، ولم تكن له قيادات ميدانية معروفة، فقد تمكن زعيم الأحباب وجماعته من الاستيلاء على قيادة الحراك، ومن تحقيق الأهداف المرسومة. كانت تلك المسيرة هي آخر مسيرة للحراك تتجه إلى القصر الرئاسي، وقد اتجهت كل المسيرات التي أعقبتها إلى مسجد ابن عباس، وقد كان ذلك بمبادرة وبأوامر من "زعيم الأحباب"، وتم العمل من بعد ذلك على الانحراف بالحراك من حراك يطالب بمحاكمة كاتب المقال المسيء، ولا شيء غير ذلك، إلى حراك ينشغل بحرق هواتف "سامسينغ" وألبان "تفسك" وبالتهجم على "ولد شدو" و"منت المختار" وهو ما تسبب في تفرق وتشتت المناصرين.
بعد انحراف الحراك عن مساره، وبعد تشتت الأنصار وتفرقهم اعتقدت السلطة الحاكمة بأن الوقت قد حان للاستجابة إلى ضغوط الحكومات والمنظمات الغربية المطالبة بتبرئة كاتب المقال المسيء.
في يوم 15 نوفمبر 2016 تم فتح ملف المسيء من جديد، وهنا أيضا هبت جماهير النصرة بشكل عفوي، ويومها شعرت السلطة بأن حراك النصرة لم يمت، ومن هنا كان لا بد من رسم خطة جديدة لتفريق وتشتيت جماهير هذا الحراك الذي ظهر بشكل أقوى في موسمه الثاني، والذي تمكن في يوم الثلاثاء 31 يناير 2017 من حشد أكبر تجمع جماهيري عرفته موريتانيا في كل تاريخها.
هنا اضطرت السلطة إلى أن تعيد نفس الأسلوب تقريبا، وهنا أوكلت المهمة إلى "محامي الجناب"، وذلك بعد أن احترقت ورقة "زعيم الأحباب". يمكنكم أن تلاحظوا بأن كلا من الرجلين قد اختار لقبا جذابا قادرا على أن يثير عواطف جماهير النصرة، فالأول سمى نفسه بـ"زعيم أحباب الرسول" عليه أفضل الصلاة والسلام، والثاني سمى نفسه بـ"محامي الجناب النبوي الشريف". ويمكنكم أن تلاحظوا أيضا بأن كلا من الرجلين قد فتحت له القنوات التلفزيونية الحرة ذات العلاقة القوية بالسلطة، وتم تقديمه على أنه هو الناطق الرسمي والوحيد باسم حراك النصرة. أما التشابه الثالث بينهما، فيتمثل في أن كلاهما شخص صدامي، وأن السلطة قد سمحت لكل واحد منهما بأن يسيء إلى الآخرين، وأن يتحدث دون حساب ودون ضوابط، وكان كل ذلك من أجل رفع أسهمها في حراك النصرة، وخاصة عند البسطاء من الناس، فمثل ذلك سيساعدهما في تنفيذ المهام المرسومة لهما عندما تحين لحظة التنفيذ.
عُرف المحامي بخطابه الصدامي الذي لم يكن في صالح حراك النصرة، وقد حاول أن يقسم المجتمع الموريتاني إلى فسطاطين: فسطاط خير لا شر فيه يشارك في أنشطة النصرة، وفسطاط شر لا خير فيه لم يشارك في تلك الأنشطة، ولا يخفى على أي أحد خطورة هذا التصنيف وعدم دقته. كما حاول المحامي أن يذكي النعرات القبلية والجهوية والطرقية لزرع الخلاف بين مكونات النصرة. تحدث المحامي عن حب آل البيت ـ في أوقات حاسمة من مسار الحراك ـ وخص رئيس الدولة ورئيس الحزب الحاكم عند حديثه عن آل البيت، وتحدث عن وجود المخابرات في واجهة الحراك، وهو الأعلم بحقيقة وجودها، وقد حاول المحامي أن يستفيد من تلك الحقيقة، وأن يشوه من خلالها حراك النصرة، وأن يقدمه على أنه مجرد شلة من "المخابرات العليا" التي تتصارع مع "المخابرات السفلى".
تلكم كانت بعض المهام التي أداها "محامي الجناب" من أجل إفشال الحراك وتفريق مكوناته، وتبقى المهمة الأخطر التي تولى تنفيذها لصالح السلطة هي أنه تمكن من إخراج السلطة من ورطة خطيرة جدا، وكان ذلك في يوم الثلاثاء 31 يناير 2017 الذي اجتمعت فيه حشود بشرية غير مسبوقة.
أصرت السلطة في ذلك اليوم على أن تتخذ محكمتها العليا قرارا لصالح كاتب المقال المسيء، وهذا مما يرجح بأنها تخطط لإطلاق سراحه، ولكن المشكلة كانت تكمن في ذلك الوقت في خطورة ردة الفعل التي يمكن أن يقوم بها عشرات الآلاف من المحتجين عندما يتبين لهم بأن المحكمة العليا قد اتخذت قرارا لصالح كاتب المقال المسيء. هنا جاء دور "محامي الجناب" الذي خدع عشرات الآلاف من المحتجين وكذب عليهم، وقال لهم إن القرار الذي اتخذته المحكمة في ذلك اليوم كان في صالح حراك النصرة، وبذلك تم ضمان تفرق تلك الحشود الكبيرة دون تسجيل ردود أفعال غير متحكم فيها.
هكذا أدارت المخابرات العليا أو السفلى الملف، فمن زعيم الأحباب الذي احترقت ورقته في الموسم الأول جاء الدور على محامي الجناب الذي احترقت ورقته في الموسم الثاني، والذي أصبح يجاهر اليوم بلقاءاته في السفارات الغربية، وبدعواته المطالبة بوقف الاحتجاجات وترك القضاء يؤدي مهامه دون الضغط عليه.
مدونون على الخط
لم تكن المشاكل التي واجهها حراك النصرة تأتي فقط من السلطة وعملائها، ولا حتى من حلفائها الذين احتلوا واجهة الحراك، كانت هناك مشاكل وتحديات أخرى تأتي من المعارضة التي قاطعت رسميا أنشطة الحراك، ولم تتوقف المشاكل على مقاطعة المعارضة لأنشطة الحراك، بل إن بعض المدونين المحسوبين عليها ساهموا في تشويه صورة الحراك، وحاول البعض منهم أن يحمل جماهير النصرة الأخطاء التي كان يرتكبها عملاء النظام الذين احتلوا واجهة الحراك.
وبذلك يكون بعض مدوني المعارضة قد تحالف ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ مع عملاء السلطة في تشويه حراك النصرة، ولذلك فلم يكن غريبا أن يوصف هذا الحراك في صفحات العديد من المدونين المحسوبين على المعارضة بأنه مجرد ملتقى للغوغاء.
النصرة لا تموت
رغم كل تلك المؤامرات الخطيرة التي شاركت فيها جهات عديدة فقد ظل حراك النصرة قادرا على أن يتجدد مع كل موسم، وظلت جماهيره الصادقة قادرة على أن تحشد في أي وقت، وكان ذلك مما يقلق السلطة الحاكمة.
في هذا الموسم الثالث تم تحديد موعد الثامن من نوفمبر كموعد لمحاكمة كاتب المقال المسيء، وتم تعجيل المحاكمة عن موعدها الأصلي (4 دجمبر)، وربما يكون ذلك التعجيل قد جاء من أجل إرباك جماهير النصرة، ومن أجل مباغتتها حتى لا تتمكن من تعبئة وحشد عشرات الآلاف من المحتجين كما كانت تفعل في المواسم السابقة.
كان الوقت ضيقا، ولكن ذلك لم يمنع من الدعوة إلى وقفة في يوم الجمعة 3 نوفمبر. رفضت السلطة أن ترخص لتلك الوقفة، وجاءت بحشود أمنية من أجل منع أي تجمع، ومع ذلك استطاع الحراك أن يحشد عددا معتبرا من المحتجين، وأن ينظم وقفات متفرقة ومسيرة بالسيارات، وبذلك يكون الحراك قد تمكن من أن يعيد النصرة إلى واجهة الإعلام، وتمكن ـ وهذا هو الأهم ـ بأن يقول للجميع بأن النصرة لا تموت.
يوم الحشد الأكبر
مرة أخرى يقرر حراك النصرة أن يرفع شعار الحشد الأكبر للتحضير لموعد الثامن من نوفمبر الذي اقترب كثيرا، فهل سيستطيع الحراك أن يجمع حشدا كبيرا في هذا اليوم الحاسم في مسار حراك النصرة؟
يملك حراك النصرة عدة نقاط قوة يمكن أن نذكر منها:
ـ صدق جماهيره واستعدادها للتضحية والبذل، فرغم أن واجهة هذا الحراك ظلت دائما قبلة لأصحاب المصالح والأطماع كما بينا سابقا، فإن جماهير هذا الحراك ظلت هي الجماهير الأنقى والأصدق والأكثر استعدادا للتضحية والبذل.
ـ تزايد الشعور لدى جماهير النصرة بأن السلطة قد قررت أن ترضخ للضغوط الأجنبية، وبأنها عازمة على تبرئة كاتب المقال المسيء، وقد أدى تنامي ذلك الشعور إلى أن الكل قد أصبح على استعداد لأن يضاعف جهوده في هذه الفترة القصيرة جدا من أجل إفشال أي محاولة لتبرئة كاتب المقال المسيء.
ـ المراهنة على الشعب الموريتاني، والذي من الراجح جدا بأنه سيلبي نداء النصرة، وسيخرج عن بكرة أبيه في يوم الأربعاء القادم دفاعا عن مقدساته.
السيناريو المقلق
يبقى هناك احتمال وارد، وسيناريو مقلق تتحدث عنه بعض التسريبات وتدعمه بعض الإشارات التي يمكن التقاطها من هنا وهناك.
ملخص هذا السيناريو يتمثل في أن السلطة عازمة على إطلاق سراح كاتب المقال المسيء، وتهجيره من بعد ذلك إلى إحدى الدول الأوروبية.
خطورة هذا السيناريو تكمن في أن كاتب المقال المسيء عندما يصل إلى أوروبا، فسيتم إغراؤه من طرف الدول والمنظمات الغربية التي ساهمت في إطلاق سراحه إلى أن يتراجع عن توبته إن كان قد تاب أصلا، وإلى أن يصرح بإلحاده وبإساءته، ومن المؤكد بأن التلفزيونات والمواقع والجرائد الغربية ستعمل على تسويق أفكاره الإلحادية، وإلى أن تجعل منه نجما وبطلا لإغراء مشاريع الملحدين في البلدان في الإسلامية. حينها ستجد بلاد المنارة والرباط بأن المسيء والمحكمة قد أدخلاها في ورطة وفي مأزق حقيقي.
حفظ الله موريتانيا..