الزهد... الورع... الحب...
كن مُتَقَشِّفاً لا تهتم بشكلك، لا سيّما إن كان تخصصك شرعي، وإلا فلست زاهدا... كن معتزلا للناس، ولشؤون الحياة كلها، وإلا فلست ورعا... كن على علاقة غير شرعية، وإلا فلا مجال للحب داخل قلبك...
للأسف هذه هي نظرة أغلب مجتمعنا الخاطئة لمعاني هذه المصطلحات الثلاث، بل يكاد يجمع على هذه النظرة.
اعلموا رحمكم الله أن الشخص إذا كان يهتم بشكله: (من نظافة وثياب إلخ)، فهذا لا يعني أنه غير زاهد أو غير ملتزم... فالزهد ه: (عدم تعلق القلب بالدنيا)؛ وقد يكون الشخص غنيا لكن قلبه غير مُعَلَّقٍ بالدنيا، وبذلك يكون من الزُّهَّاد، وقد يكون فقيرا وقلبه مُعَلَّقٌ بالدنيا، وبذلك يخرج من هذه الدائرة.
وأما الورع فهو: (ترك ما لا بأس فيه مخافة مما فيه بأس...) وليس الورع إرهاق النفس ومنْعها مما أحل الله لها من الطيبات كما يظن البعض، أو اعتزال الناس؛ فقد ورد في ﺣﺪﻳﺚ ﺍﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ أن: "ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺎﻟﻂ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻳﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﺫﺍﻫﻢ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺨﺎﻟﻂ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻻ ﻳﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﺫﺍﻫﻢ" ﺭﻭﺍﻩ ﺍﻟﺘﺮﻣﺬﻱ.
وأما شؤون الدنيا فلا يعتبر اعتزالها وَرَعا، بل نحن مطالبون بعدم إهمال شؤوننا الدنيوية، ولو تدبرنا القرآن لوجدنا أطول آية فيه تتعلق بشأن دنيوي، وهي آية الدَّيْن قال تعالى: (يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنً إِلَى أَجَلً مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...).
لكن دعاة السلاطين تراهم يُحدثوننا بالتبرك بآية الكرسي وفضْلها، ولا يحدثوننا بآية الدين، وتراهم أيضا يحدثون الناس بفرائض الوضوء في سورة المائدة، ولا يحدثونهم عن حَدِّ السرقة، مع أنهما في سورة واحدة...
ولا يُنَوِّهون إلى غير ذلك من الشؤون الدنيوية، لأنهم يريدوننا أن نظل بعيدين عن منهج الله في الواقع، ليظل السلطان هو المتحكِّم في واقعنا...
وقد يقول البعض ما دام الورع "ترك ما لا بأس فيه مخافة مما فيه بأس" فإن الأوْلى الابتعاد عن شؤون الدنيا واعتزال السياسة وغير ذلك...
لكن الأمر ليس كذلك، فالمفاسد التي تترب على السياسة إن تُرِك حبْلها لمن لا يفْقَهُ من أمر الدين شيئا لا يعلمها إلا الله، وكذلك المفاسد التي تترتب على عدم مخالطة الناس من إفراط في الأحكام وتبيين الحق لهم لا يعلمها إلا الله، فالوحدة مطلوبة اتجاه جليس السوء لا غيره، وإن كان لا بد لكل شخص من خلوة مع ربه يتعبده فيها، ليكون ذلك تهذيبا لنفسه التي تتقاسمها المغريات والفتن، والمَزْجُ بين ذلك كله سهْل على من سهَّله الله عليه...
وأما الحب فليس من الواجب أن يكون ضمْن علاقة غير شرعية يتقاسم أهلها الطقوس المحرمة التي تُمارس على مرأى ومسمع من أعْيُن الجميع داخل المؤسسات التعليمية وخارجها دون أن يتحرك ساكن أو ينكِر ذلك منكر، وإن كان الأمر تقلّص ولله الحمد بسبب انخراط الشباب في الدعوة وممارستهم لها داخل المؤسسات...
لكن الحب الحقيقيَ هو حبّ العلاقة الشرعية الذي يُكتسب عن طريق الزواج الشرعي...
إلا أننا للأسف أبدلناه بالجفاء والعبوسة ليُفضي بنا ذلك إلى التفكك الأسري الذي لا تحمد عقباه على الأبناء إن وُجدوا، ولا على المجتمع كذلك...
ومع أنني لا زالت ترْتهنني الحيْرة وتتمَلَّكُني عندما أجد مجتمعنا ينتهج هذا النهْجَ، وإن كنا بدأنا نُدرك أبْعَاد المسألة قليلا، لكننا إذا ما لم نبدأ بحصْرٍ لتلك الأسباب التي أفضت بمجتمعنا إلى هذه البدعة (بِدْعة الجَفاء بين الزوجين بَدَل الحب)، ونقوم بعملية سَبْرٍ لها، فإننا سنظل رهْن تلك القيود التي لا أساس لها في الشرع...
ولعل السبب هو عدم فهْمنا للحياء السمح، لنُفْرِطَ فيه فيُفضي بنا إلى ذلك... وإن كان حب الزوجة ينبغي أن لا يخضع لذلك...
ألم يكن خير البشر صلى الله عليه وسلم حبيبا لخديجة رضي الله عنها، ولم يتزوج عليها لشدة حبه لها، وكذلك عائشة؛ إذ نجده من شدة حبه لها يُسابقها فتسبقه ثم يعاودان السِّباق فيسبقها، ويقول لها بأبي هو وأمي (...هذه بتلك)، والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظه: (ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ ﺳﻔﺮ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻓﺴﺎﺑﻘﺘﻪ ﻓﺴﺒﻘﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺭﺟﻠﻲ، ﻓﻠﻤﺎ ﺣﻤﻠﺖ ﺍﻟﻠﺤﻢ ﺳﺎﺑﻘﺘﻪ ﻓﺴﺒﻘﻨﻲ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻫﺬﻩ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺴﺒﻘﺔ).
وفي لفظ آخر: (ﺳﺎﺑﻘﻨﻲ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺴﺒﻘﺘﻪ، ﻓﻠﺒﺜﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﻫﻘﻨﻲ ﺍﻟﻠﺤﻢ ﺳﺎﺑﻘﻨﻲ ﻓﺴﺒﻘﻨﻲ ﻓﻘﺎﻝ: ﻫﺬﻩ ﺑﺘﻠﻚ).
ليْتنا أعدنا النظر قليلا فصَحَّحْنا ما ينبغي تصْحيحه وسَدَّدنا ما ينبغي تسديده، وفهِم كل زوج حاجته إلى شريكته فقاسمها حبه لأجل أن تُقاسمه الحزن والفرح، وتَجاوُزِ الصِّعَاب، فتكون بذلك له عضدا في قابل الأيام يشُدُّ بها أزره...
أم أن الزوج فينا يخشى من إظهار الحب لزوجته بسبب تُرَّهَاتٍ اجتماعية؟ كما يخشى البعض من الزواج بالمثقفة؟
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.