ذات غصة قال الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع لأحد مساعديه لمَ لا نغلق الجامعة؟ أفترض الآن بعد حوالي خمسة عشر عاما من سماع الحكاية أن المستشار الذي كان "على شيء ثقافيا" أسر غصة ساخرة، وأجاب الرئيس بأن الجامعة جزء ركين من مقومات الدولة الحديثة. ترى هل فهمه؟
معاوية رجل دولة من طراز ما بعد جيل الاستقلال، كان فسادهم إداريا، وسلطويا، يستبْقون لأنفسهم الدولة والنفوذ والسلطة ويتركون المال لمن حولهم، ومن حولهم، إلى أدنى السلم حيث يركع أفراد شرطة الـ200.
حكمَ دولة الاستقلال العربية والإفريقية قادة رؤساء، يأتون عند التأسيس بأحلام البناء والسيادة، وتوصيات السادة والسيدات في مراكز إدارة الاستعمار، مع كثير من الكدح الشخصي، ومساعي تحصيل قدرات بناة الدول. تصاحب ذلك عفة يد عن المال العام، وأنفة تجافي عن التغول على الضعيف، أو بيع المصالح العليا.
ويتحولون مع الأحداث وتطوراتها إلى بناة أمجاد وطنية، ولمَ لا تكون عائلية أيضا؟ لا مانع ما لم يغلب العائلي على الوطني، وهو يغلب إلا قليلا.
يأتي بعدهم "صيادو أمجاد" قذفتهم أقدارهم، وأخطاء الزعامات إلى المركز، لا محيد عن توليهم القيادة بعد الرحيل المفاجئ للمؤسس انقلابا، أو موتا، أو عجزا، أو ادعاء عجز.
وبعد هذه الفئة تأتي نخبة السماسرة ممن لم تقذف بهم الأقدار، ولا الأخطاء، ولا جاءت بهم إرادة حي أو ميت. محنة هكذا تحل بالأوطان لقاء تفريط الناس في حقهم، واستمراء السكوت والغفلة، ومعاقرة مشاغل القوت.
لا طعم زعامة، ولا ريح تضحية، ولا نبرة تحدٍ. يعادي هؤلاء الدول ويشتغلون بالاتجار، تكديسا للمال، ومزاحمة لكل تَجْرٍ، وركضا وراء كل مطمع.
أوقف أحد التجار أولاء في المنكب البرزخي صرف ميزانية مكتب الإحصاء بداية حكمه حتى احتاج إلى صندوق النقد الدولي، وفوجئ حين علم من مستشار أن المكتب الوطني للإحصاء من مقومات الدولة الحديثة. غص الرئيس والمستشار معا، بلا سؤال ولا جواب ولا سخرية.
تجاوزت اعتباطيات ولد عبد العزيز بشأن الإغلاق والفتح في التعليم عبقرية السؤال الذي ألقاه ولد الطايع على مستشاره حين الغصة، وتفتقت قريحته التجارية عن فكرة بيع المدارس. البيع أخف وقعا على الضمير التجاري من الإغلاق المحض.
الجامعة لم تغلق في عهد الاعتباطيات التجارية، بل توسعت. هذا من المفارقات؛ أسست جامعة جديدة وسهل منح التراخيص للجامعات التجارية.
توسعُ بنى التعليم غير المَبِيعَة ليس منةً من ورثة السيد السائل عن ضرورة وجود جامعة. تنمو الدول نموا تلقائيا لا يحتاج إلى رؤية استثنائية، يكفيه تسيير الأمور الجارية. لا يتصور أن تتوقف دولة عن إنشاء مدارس وكليات تبعا لزيادة عدد السكان فيها.
ما يتصور، وهو واقع، أن تحاول سلطة قمعية إفراغ الجامعة من رسالتها، وتقمع الذين يتوسم فيهم حمل الرسالة، غير مستفيدة من الدرس المستفيض الذي تلقته أمس، ولا مؤذنة لغصة المستشار المختنق بسؤال الرئيس لم لا نغلق الجامعة؟
فشلت محاولة إغلاق المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وكنت شاهدا على إفشالها؛ شباب يقفون ليقولوا إنهم يرفضون القرار، يخرجون فتهجم عليهم الشرطة، تعتقل بعضهم وتفرق جمعهم، يعودون في اليوم التالي ليقولوا الذي قالوه أمس، وتفعل الشرطة ما فعلت. قضى الله لأطول الفريقين نفسا ولأخلصهما حنجرة، وبح الجنرال الرئيس. وغص مستشار ثالث، ووزير ومدير، وكاتب صحفي، هذه المرة بعد فوات الأوان. وبلا جواب، أو سؤال. غصة فقط.
ما جرى مع جامعة نواكشوط لم يكن إغلاقا بالشرطة وقرارات تشميع الأبواب، كان ردة تدريجية عن حرية الأسرة الجامعية في اختيار من يقوم بأمرها، وتقطيعا لأوصال الحركة الطلابية بمحاولات الاختراق العمياء عن بذور الشر المستطير التي تغرسها.
أُفسدت الانتخابات الطلابية، وأوقدت النعرات، وأطلقت أيدي مباضع الطرد، والحجر والتضييق.
يجري على مهل تحويل الجامعة إلى مركز "تكوين مهني" على وقع معزوفة الرئيس عن العلوم الإنسانية، عن الشعر والقانون والشريعة، والتاريخ، وعن الإحصاء كذلك.
المهنيون أيضا يثورون، يجب التفكير في حل آخر. الشرطة، الشرطة هي الحل.
الجامعة لن تغلق وقمع الحيوية في طلابها يبعد احتمال إغلاقها. وكل مرة يغص مستشار بسؤال أحمق تقطع الجامعة شوطا نحو رسالتها.
لنعد إلى الحكام. الفئة الأولى يؤمنون ببناء مؤسسات، وإقامة كيانات، ويقف جيل الرؤساء الوارثين على حياد من تركة النخب الأولى؛ لا ينغمس في خطط إهلاكها، ولا يستنفد جهدا في تطويرها. جيل السماسرة يضعها موضع المساومة، ويزنها بما تضخ في الجيوب.
تنحني الأجيال تقديرا لأبوة المؤسسين، مع نقد ومحاسبة، وتلعن الرؤساء القافزين، فإذا رسفت في أغلال لعنة السماسرة غصت بريقها وترحمت على الحجاج.
عمود "قليل من كثير" للكاتب في صحيفة الأخبار إنفو الأسبوعية