على مدار الساعة

المهرجان الدولي المرتقب لتثمين تراث حوض آرغين:  تنبيه ومقترحات

4 يونيو, 2018 - 00:34
د. أحمد ولد المصطف

يعتبر حوض آرغين منطقة غنية بتراثها الثقافي والاجتماعي والتاريخي، إضافة إلى ما تزخر به من ظواهر طبيعية، بوصفها موطنا مفضلا لأنواع عديدة من الطيور المهاجرة، يقدر عددها سنويا بمليوني طائر تأتي من أوروبا الشمالية وسبيريا وجرويلاند. يحتل موقع آرغين مكانة متميزة، ليس في التاريخ الوطني فحسب، باعتباره مهد حضارة بحرية قديمة ومرتكز بدايات تشكل دولة المرابطين، وساحة معارك شرسة بين السكان الأصليين والبرتغاليين ابتداء من سنة 1441، بل في تاريخ القارة الإفريقية والتاريخ العالمي.

 

لا يسعى المقال الحالي إلى الغوص في التاريخ القديم والمتشعب لهذه المنطقة من ساحلنا، إنما سيقتصر على تنبيه مقتضب للقائمين على الشأن العام بضرورة السعي إلى أن يجني البلد من تنظيم مهرجان دولي حول هذه المنطقة المحورية أقصي ما يستطيع أن يجنيه للتعريف بحقائق تاريخية عن هذا الأرخبيل وعن الساحل الموريتاني بشكل عام، ظلت مجهولة ولعدة قرون، ولم يتم نفض الغبار عنها بشكل علمي ومتاح للجمهور، ولو جزئيا، إلا منذ أقل من ثلاث سنوات، وتحديدا يوم 5 أغسطس 2015، تاريخ تنظيمنا لندوة علمية في المتحف الوطني حول تعريب وتحقيق أقدم وثيقة كتبها البرتغاليون عن بداية حملاتهم على سواحل غرب إفريقيا: تاريخ اكتشاف وغزو غينيا الذي ألفه مدير المكتبة الملكية البرتغالية المساعد حينها، غوميس أيانيس دي زورارا سنة 1453.

 

لقد أردنا من خلال هذا العمل، الذي حضر تقديمه أساتذة باحثون ومهتمون بالتاريخ الوطني، تسليط الضوء على حقبة مهمة من تاريخنا، تميزت، من بين أمور أخرى، بحرب إبادة شنها البرتغاليون على السكان الأصليين لشواطئنا الناطقين باللسان الصنهاجي ثم العربي والذين هبوا للدفاع عن وطنهم في بداية الحملات الاستكشافية التي قام بها البرتغاليون وبروزهم كقوة أوربية رئيسية في تلك الفترة.

 

هكذا وثق العمل المذكور لغارات البرتغاليين على المنطقة الواقعة بين الرأس الأبيض (نواذيبو) ومصب نهر السنغال ما بين 1441 إلى سنة 1448 والتي كانت حصيلتها حوالي ثمانمائة من السبايا، من نساء وأطفال وشيوخ، إضافة إلى أعداد هائلة من القتلى والجرحى. تواصلت تلك الحملات العسكرية، طيلة فترة السيطرة البرتغالية على سواحلنا، والتي استمرت زهاء قرنين من الزمن (من 1441 إلى 1634)، مع أن دمج العرشين البرتغالي والإسباني ابتداء من 1581 وحتى 1640 لم يلغ الإدارة البرتغالية المباشرة على مراكزها التجارية عبر العالم، بما فيها آرغين، أول قاعدة بحرية برتغالية دائمة في الغرب الإفريقي.

 

فبحسب الدراسات الحديثة الموثقة وذات المصداقية العلمية، يقدر عدد من تم جلبهم من الرقيق من السكان الأصليين لبلدنا من جزيرة آرغين إلى البرتغال ومستعمراتها في الأمريكيتين بما مجموعه حوالي سبعين إلى مائة ألف شخص، أغلبهم من الناطقين باللسان الصنهاجي (اكلام أزناڭه) والعربية.

 

 بعد الوجود البرتغالي، خضعت جزيرة آرغين للسيطرة الهولندية (1634 ـ 1678)، ثم البروسية (1684 ـ 1721) والإنجليزية (ابتداء من 1721)، وهي الفترة التي تميزت بحروب وصراعات على هذه الجزيرة مع الفرنسيين، لم تهدأ إلا بعد توقيع اتفاقية فرساي بتاريخ 3 سبتمبر 1783 بين إنجلترا وفرنسا، والتي بموجبها أصبحت الأخيرة تتمتع رسميا بحقوق سيادية على الساحل الأطلسي الموريتاني والسنغال، مع احتفاظ الأولى بحق المتاجرة في المنطقة الواقعة بين نهر سين ـ جان Saint- Jean وميناء هدي Portendick؛ ولم يتنازل الإنجليز عن هذا الحق إلا سنة 1857 مقابل منحهم مركزا تجاريا في ألبريدا بغامبيا.

 

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن حوض آرغين عموما ربما خضع جزئيا على الأقل، وفق ما ورد في الوثائق البرتغالية والأبحاث الحديثة، للسلطة السياسية لكل من انيرزيڭ، وهي مجموعة صنهاجية محاربة، توجد بعض امتداداتها الاجتماعية في مقاطعة كرمسين الحالية، وبعض مكونات بني حسان بشكل عام وأولاد رزڭ بشكل خاص، أول إمارة عربية في الجنوب الغرب الموريتاني، مع تواجد اجتماعي قوي وتأثير روحي لأهل بوحبيني، إضافة إلى مجموعات أخرى وفدت إلى المنطقة وأصبحت من ضمن نسيجها الاجتماعي، وهذه المجموعات هي التي خاضت، وفق نفس الوثائق، المقاومة ضد البرتغاليين.

 

ومع بداية تأسيس إمارة الترارزة، أصبحت منطقة آرغين من ضمن المجال الأميري التروزي منذ عهد الأمير هدي ولد أحمد بن دمان، وتعزز ذلك مع الأمير اعل شنظورة (1703 ـ 1727) الذي توجد مراسلات بينه والملوك الهولنديين بخصوص المعاهدات التجارية الخاصة بجزيرة آرغين، وكذلك مراسلات بين حفيد هذا الأخير، الأمير اعل الكوري ولد أعمر ولد اعل شنظورة، المتوفى حوالي 1786، مع جورج الثالث، ملك إنجلترا (1760 ـ 1820).

 

بعد هذه اللمحة التاريخية الموجزة، يجدر التنبيه إلى أن محمية حوض آرغين قد تأسست بفضل جهود الباحث الفرنسي الكبير تيودور مونو Théodore Monod وذلك مطلع سبعينات القرن الماضي، باعتبارها محمية طبيعية للطيور المهاجرة ومنطقة ذات خصائص جغرافية ومناخية فريدة. تبنت الحكومة الموريتانية سنة 1976 فكرة الباحث المذكور وأنشأت مؤسسة "الحظيرة الوطنية لحوض آرغين". في سنة 1982 تم اعتبار الحظيرة الوطنية لحوض آرغين موقعا من مواقع معاهدة "رامسار" الخاصة بحفظ المناطق الرطبة ذات الأهمية الدولية، وبالأخص تلك التي تأوي الطيور المهاجرة. في سنة 1989 اعترفت منظمة اليونسكو بالموقع على أنه جزء من التراث الطبيعي العالمي وأصبح قبلة للسياح والباحثين المهتمين بالمواضيع الطبيعية والإيكولوجية (المناخية) وتأثيراتها المحتملة على الطيور المهاجرة والكائنات الحية والنباتات الأخرى. بيد أن البعد التاريخي والإنساني المتمثل في أن تجارة الرقيق، التي مارسها البرتغاليون واتخذت طابع استئصال شعب وحضارة بحرية كانت قائمة منذ آلاف السنين، قد تم إهماله ولم يدرج في الدراسات التي قيم بها في هذا الموقع.

 

لقد ذكرت المراجع التاريخية أن أول شخص وضع عليه وسم بواسطة الكي بالنار كان من السكان الأصليين لسواحلنا وفي آرغين بالذات، وذلك ليتسنى للبرتغاليين معرفة "سهم" كل قائد أو جندي من السبايا الذين يختطفونهم من شواطئنا ومن صحراء الملثمين ليبيعوهم في البرتغال وفي بعض المدن الأوربية الأخرى، أو يتوجهوا بهم إلى مستعمراتهم في الأمريكيتين.

 

فتنظيم مهرجان دولي حول حوض آرغين، المنطقة ذات التاريخ الخاص، لا بد أن يضع في الحسبان بعض الأمور التي لها علاقة بتاريخنا وما عانيناه جراء الاستعمار الأوروبي بشكل عام، والاستعمار البرتغالي بشكل خاص.

 

ليس ذلك من أجل إثارة موضوع حساس وهام وهو تجارة الرقيق العابرة للقارات وبدايات الاستعمار وجرائمه وما اكتوينا به جراء ذلك، وإنما لتثمين هذا التاريخ لحفظ ذاكرتنا الجماعية وتجسيد ذلك في مؤسسة تحفظ هذا التراث متعدد الأبعاد وفي معلم يكون ذكرى لنا وللعالم، يرمز إلى أن هذا الشعب قد عانى من الاسترقاق الأجنبي الاستعماري في أبشع صوره وأنه دافع وقاوم عن هذه الأرض وتشبث بها، رغم محاولات اجتثاثه والقضاء عليه.

 

فإذا كانت الدولة الموريتانية، منذ استقلالها، تعمل على محاربة الاسترقاق الداخلي المقيت ومخلفاته وضاعفت في السنوات الأخيرة جهودها في هذا الصدد بسن قوانين جديدة وإنشاء مؤسسة "تضامن" ومحاكم جهوية للقضاء على تلك الظاهرة اللا إنسانية، فإنه آن الأوان فعلا لأن نلتفت إلى وجه آخر من هذه الظاهرة أشد خطورة وفظاعة تمثل في اختطاف الآلاف من ساكنة شواطئنا وبيعهم كعبيد من قبل البرتغاليين وغيرهم من الأوروبيين على مدى قرون من الزمن.

 

بيد أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بوضع تصور ودراسة جادة هدفها تثمين تاريخنا الوطني، بعيدا كل البعد عن الخصوصيات والنظرات الضيقة، من أجل هدف أسمى هو التوعية والتحسيس بماضينا المشترك وربطه بحركة التاريخ العالمي من خلال تظاهرة علمية ثقافية دولية، على غرار ما ينظم في مواقع عرفت أحداثا مماثلة كان لها تأثير في تاريخ إفريقيا والعالم.

 

فلكي تتوفر عوامل نجاح المهرجان المذكور في نسخته الأولى، التي من المتوقع أن تنظم في شهر أغسطس القادم، يجب أولا وقبل كل شيء اتخاذ الإجراءات التالية:

1 / اعتبار هذه التظاهرة قضية وطنية كبرى؛

2 / تحديد الأهداف المرجوة من تنظيم المهرجان؛

3 / تشكيل لجنة خبراء متعددي الاختصاصات من جامعة نواكشوط العصرية وغير ها من مؤسسات التعليم العالي، تتكون من مؤرخين وباحثين متمرسين مهتمين بالتاريخ والحضارة والثقافة، وبالأخص تاريخ الساحل الموريتاني ومن باحثين في علم الاجتماع والسياحة ومن قانونيين واقتصاديين وجغرافيين وجيولوجيين وممثل عن كل من المعهد الموريتاني لأبحاث المحيطات والصيد و المعهد الموريتاني للبحث الجيولوجي والمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وممثلين عن وزارات التعليم العالي والبحث العلمي والثقافة والبيئة و ممثل عن اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم وآخر عن الحظيرة الوطنية لحوض آرغين، إضافة إلى شخصيتين مرجعيتين منحدرتين من منطقة حوض آرغين، يعهد إليها بما يلي:

أ/ وضع تصور عن خطة سير مختلف مراحل المهرجان، مع إبراز المحطات التي يجب التركيز عليها؛

ب/ تقديم مقترحات عملية بخصوص الهيئات والشخصيات العلمية والثقافية الدولية التي يجب تقديم دعوات لها للمشاركة في هذه التظاهرة؛

ج/ تأليف عمل علمي تمهيدي يعرف بالتراث الثقافي والطبيعي والتاريخي لحوض آرغين، يتم عرضه خلال النسخة الأولى من المهرجان الدولي، على أن يتم تعميق البحث وإثرائه في النسخ التالية من هذه التظاهرة؛

د/ تقديم مقترحات بخصوص التنسيق والتعاون مع الهيئات الدولية المعنية أو المهتمة بالموضوع: اليونيسكو، الإيسيسكو (المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة)، الأليكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) ومع المؤسسات والصناديق الدولية المهتمة بحفظ التراث العالمي والمحافظة على البيئة؛

ھ / تقديم مقترح بتشييد معلم تذكاري يقام في جزيرة آرغين أو جزيرة تيدره يرمز لتخليد ذكرى من تم اختطافهم وسبيهم من ساكنة البلاد وبيعهم كرقيق في أوروبا والأمريكيتين.

4 / تشكيل لجنة تنظيم ميدانية يعهد إليها بالتهيئة والتنظيم و بالجوانب اللوجستية والفنية.

 

أخيرا، على الدولة بمختلف قطاعاتها، وبمساعدة كل المهتمين بهذا الموضوع، أن تبذل في هذه التظاهرة الهامة ما بوسعها لإنجاحها وتغتنم فرصتها لتقدم للعالم صورة ناصعة ومنصفة عن ماضينا الذي أصبح في جزء منه تاريخا مشتركا نتقاسمه مع أمم وحضارات أخرى.