على مدار الساعة

تمجيداً لدماء لكور التي سالت في ترابنا.. قراءة إيديولوجية في كتابِ فيليب مارشزيه

2 ديسمبر, 2018 - 02:59
الشيخ مزيد

تمجيداً لدماء لكور التي سالت في ترابنا.. قراءة إيديولوجية في كتابِ فيليب مارشزيه "القبائل، الإثنيات والسّلطة في موريتانيا"

يُعتبر فليب ماشرزيـه مُتخصصاً في الجغرافيا السياسية، وهوّ أستاذ محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة السوربون، بالإضافة لذلك خبيراً في العلاقات بين الجنوب والشمال خاصةً في قضايا التعاون والتنمية. وقد درّس لعشر سنوات في المدرسة الوطنية للإدارة وجامعة نواكشوط، كما درس بتركيا وبلروسيا العلوم السياسية.

 

إن أعمال صديقنا الأساسية كان موضوعها الأمن الغذائي، والواقع القبلي في موريتانيا والتعاون الفرنسي، ويرأسُ المرصد الدائم للتعاون الفرنسي. وله بالإضافة إلى هذا الكتب الذي نحنُ بصددِ دراسةِ جزءٍ منهُ، عدد من المؤلفات والبحوث حول: التهديدات الجديدة، العلاقة بين الشمال والجنوب من سنوات الثمانينات حتى أيامنا الحالية الصادر عن كارتالا 2001، ومدخل إلى دراسة العلاقات الدولية عن دار كارتلا أيضاً 2008 بالإضافة للواقع القبلي في موريتانيا والتعاون الفرنسي كما أشرنا.

 

إنّ كتابهُ الذين بين أيدينا "القبائل، الإثنيات، والسلطة في موريتانيا" الصادر 1992 عن دار كارتلا والذي ترجمهُ الدكتور محمد ولد بوعليبة 2013 وصدر عن دار نشر جسور، يتناولُ بالتّحليل حقبة سياسية مهمة من تاريخ بلدنا حسب المترجم، وهي الحقبة التي تُغطي ما بين سنة 1946 و1992". وقد "اعتمد المؤلف بالإضافة إلى أعمال نظرية لمفكرين وأساتذة كبار (بياربلانديي وبردشار وغلنر وبالانس وبيير بونت، عبد الودود ولد الشيخ وغيرهم) على كثيرٍ من الملفات في الإرشيف الوطني بنواكشوط وفرنسا كما اعتمد كذلك على كثير من الدراسات النادرة حول موريتانيا". ويعتبرُ ولد بوعليبة الذي ترجم الكتاب أن قائمة المراجع في أخر الكتاب تُعبر عن غزارة المصادر التي اعتمدها الباحث. يقع الكتابُ في 458 صفحة، قسم فيها موضوعُه على عشر فصول. وسنتناولُ فصلهُ السادسُ وتحديداً عنوانه الفرعي : "الانفجار الإثني" الذي يبدأ من الصفحة 231 وينتهي عند الصّفحة 247. هو إذا مغيبٌ لانهائي في أبديةٍ من العويل، حيثُ يخيمُ الظلامُ في داخل النّفس دون الأملِ بنورٍ في خارجها.

 

في البدء..

يذهب فيليب مارشزيه إلى أن المشاكل العرقية لم تبلغ في يومٍ من الأيام - رغم ظهورها الظرفي مراراً - درجة الخطورة التي بلغتها في نهاية الثمانينات. إن هذا التّوتر الذي ظهر سنة 1986 ثم اشتدّ بعد ذلك ليؤدي إلى أحداث خريف 1989 وتبعاتها، محى "صورة بلدٍ ظلّ حتى الآن يرمزُ بمقدارٍ قلّ أو كثر إلى همزةٍ الوصل بين إفريقيا السمراء وإفريقيا البيضاء وقد لعبت السّلطات ورقة العروبة على ما يترتبُ على ذلك." كي نكون صريحين!

 

لقد طفى المشكل الإثني على السطح مرةً أخرى، سنة 1986، مع نشر حركة أفلام بيان "الزنجي الموريتاني المضطهد" وتوزيعه في أديس بابا كما هوّ معروف، "وتحللّ هذه الوثيقة وتنتقدُ الفوارق بين الزنوج الأفارقة والعرب البربر وفق تصنيفات عرقية". إنّ أصحاب هذا البيان حسب مارشزيه "يصفونَ ما يسمونهُ بنظام البيظان بالأبرتايد والظلم وحسب هؤلاء يستلهم هذا النظام من الأيدلوجية الإقصائية لنظام البيض في موريتانيا، ويحثون إخوتهم في اللون إلى مقاومة ما يصفونه "بالسحق السياسي والأجتماعي والثقافي" بالقوة إذا ما اقتضى الأمر". إن ردة فعل نظام "الأبرتايد" لم تتأخر فـ"في بداية سبتمبر استبدل الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطائع وزير الداخلية آن أمادو بابالي، الذي يوصفُ بالتردد بالمقدم جبريل ولد عبد الله". إنّ وزير الداخلية الجديد بدى رجلاً قوياً "وقد فككّ في بضعة أسابيع بالتعاون مع مدير الأمن النقيب اعلي ولد محمد فال الجزء المهم من الجناح السياسي لأفلام".

 

وقد صّرح المقدم في يوم 13 من سبتمبر: "لقد تمت السيطرة على الذين ضلوا السّبيل" وهو ما اعتبرهُ مارشزيه تشهيراً بـ"موقف أولئك الذين يريدون "الإخلال بالوحدة الوطنية" ومندداً بالدعم الخارجي الذي يفترض أنهم استفادوا منه. استشهد على التهمة الأولى بعنوان فرعي من البيان "من الحرب الأهلية إلى كفاح التّحرير الوطني" أما بالنسبة للتهمة الثانية فيشارُ بالتناوب إلى المعارضة السنغالية وإلى عصبة دول إفريقيا وإلى إسرائيل". وقد تم الحكم "على ثلاثة و عشرين "ضالاً" يُستغربُ اعتبارهم مساجين حق عاديين وبعقوبات تتراوح بين ستة شهر وخمس سنين بالسجن".

 

تلت هذه الخيبة الكبيرة واليأسَ الصّلب انتخاباتٍ بلدية يذكرَ أحمد ولد سويدي في مقالهِ الصادر في 22 من ديسمبر 1986 على صفحات مجلة المغرب الكبير أنه "لوحظَ عدم اهتمام الزنوج الأفارقة بهذه الانتخابات الديمقراطية، وهكذا لم يوجد مستشار زنجي إفريقي في بلديات مثل لعيون، أطار، النعمة. وفي مدينة نواكشوط لا يوجدُ ضمن 144 مترشحاً على أربع لوائح إلا 25 زنجياً إفريقياً من الهالبولار" ويعتبرُ مارشزيه أن هذا الإقصاء من اللعبة السياسية أثناء الانتخابات البلدية أمر مقلق، وهوّ ما دفعهُ للتساؤل: "عما إذا كان الأمر المنظم للبلديات قد تم خرقهُ بالمناسبة. يحرم التشريع تشكيلُ اللوائح "على أساس إثني أو قبلي أو ذي نزعة فئوية أو طائفة" (المادة: 89 من الأمر القانوني الصادر يوم: 13 أغسطس 1986). فهل يمكنُ الجزمُ بأن هذا الهاجس الجدير بالتقدير من جهة المشرع تم احترامه إذا ما علمنا بأنه لا يوجدُ مستشار بلدي زنجي واحد في بعض البلديات؟ وهل يوجدُ نقصٌ بهذا المستوى في المرشحين من الزنوج من الأفارقة، في "الأمة" الموريتانية في الوقت الذي يوجدُ فيه حد أدنى من التمازج في كل مدينة؟ يقدمُ أحمد ولد سويدي تفسيراً لهذه "اللا مبالاة" وهوّ تفسير يُعبرُ عن قلقٍ حقيقي".

 

يضيفُ مارشزيه أنّ الحكم على المتهمين بـ"مؤامرة تستهدفُ قلب النظام" 1987 ساهم في استمرار تأجيج التّوتر بين مختلف المجموعات خاصةً بعد "الحكم على ثلاثةٍ من المتآمرين بالإعدام ونفذ الحكم في حقهم وبعقوبة السجن والأعمال الشاقة على الآخرين". "غير أنّ الأزمة المتفوحة جاءت في خريف سنة 1989" وقد وصف ما سًميّ بالنزاعِ السنغالي الموريتاني "قبل كل شيء قضيةً موريتانية - موريتانية" .

 

الجمر يتّقد..

يؤرخ مارشزيه بداية الأحداثِ "في يوم 9 إبريل (ومع ذلك يجبُ أن نوضح بأنّ هذا التاريخ يمثل الشرارة التي تسببت في الأحداث، يتعلقُ الأمر قبل كل شيء بتبرير). حصل خلاف بين مزارعين سنغاليين من الصوانك من قرية جاورا مع منمين موريتانيين من الفلان حول قضيةٍ تتعلقُ ببعض الدواب الهمل. نجم شجار نجم عن حالتي وفاة في الجانب السنغالي وبعض الجراح في الجانب الموريتاني، أخذ المنمون الثلاثة عشر رهينةً وأحضروهم إلى الضفة الموريتانية للنهر. اتهم السنغال حرس الغابات في موريتانيا بإطلاق النار على مواطنيها وقالت موريتانيا إن إطلاق النار تم من جانب المنمين. في اليوم الموالي نهبت محلات التجارة التي يمتلكها الموريتانيون في مدينتين سنغاليتين وهما "باكل" و"ماتام". سجلت اضطرابات مماثلة في الأيام الموالية في عدة تجمعات حضرية في السنغال. أخذت عمليات النّهب في يومي 22 و23 في دكار. اجتاحت عصابات من الشباب العاطل عن العمل محالات البيظان التجارية. يقولُ سالي اندونكو رئيس الإتحاد العام للعمال السنغاليين في فرنسا: "خلافاً لما يعتقدُ البعض في الخارج، فقد كانت تقومُ بالنهب عصابات منظمة من اللّصوص... إنهم اللّصوص الذين استغلهم بعض رجال المعارضة في السنة الماضية من أجل إشعال فتيل الفتنة، هم أيضاً من أطلقّ شرارة نهب المحلات التجارية التي يمتلكها الموريتانيون". على ضوء هذه المعطيات التي كانت مصدرها مجلة "إفريقية الفتية" و"ليبراسيوه" الرائدة، يَعتبرُ مارشزيه أنه "وحتى وإن كان بالإمكان الاعتقاد بوجود استغلال سياسي فإنّ التفسير الحقيقي لعمليات النّهب في دكار ترتبطُ في ما يبدو بالأزمة الاقتصادية التي طالت بشكلٍ مباشر جزءاً من شباب الحضر في القارة الإفريقية (في هذا الصدد لم تتردد صحيفة "إفريقية الفتية" في الحديث بهذا الصدد عن الأوليكانصية واقتصاد النّهب). لقد "كانت ردةُ الفعل في نواكشوط تصعيداً أكثر خطورة".

 

لقد "انطلقت أعمال العنف في موريتانيا في يومي 24 و25 في ردةِ فعلٍ على نهبِ الممتلكات في دكار. راح ضحية الأحداث عدد من القتلى يتراوح بين 100 و150 حسب مصادر مختلفة".

 

لقد أدى وصول صدى هذا القتل الفظيع إلى دكار، فأدى بدورهِ إلى عملياتٍ قتل حيثُ قُتل ما يتراوحُ بين 60 إلى 100 من البيظان في السنغال. وقد تساءل مارشزيه على ضوءِ هذه الإحصائيات الدامية "كيف نفسر قوة ردة فعل نواكشوط مقارنةً بما حصل في دكار بصرف النّظر عن عدد القتلى؟ (في دكار لم تحدث "موجة النهب الأولى" أية خسائر في الأرواح في حين أن انتقام موريتانيا كان بالقتل) كان من شأنِ الأنباء القادمة من دكار أن تحدث موجة غضب، ولكن هل كان ذلك كافياً لإحداثِ مذبحةٍ من هذا النوع؟"

 

يصرفُ مارشزيهِ النظر عن حالة بغض الأجانب السنغاليين التي أصبحت شيئاً فشيئاً أكثر حدة وهي حالة مرتبطة بوجه خاص بالأزمة الاقتصادية وأيضاً بتطور الجريمة الصغرى في نواكشوط، لكنه يتوقفُ عند "بعض التيارات العربية المتطرفة (البعثيين والناصريين) انتهزوا الفرصة من أجل تسوية مسألة القومية على طريقتهم" وهوّ ما أنكروهُ ولا زالوا ينكروهُ إلى اليوم.

 

لا يبدو لمارشزيه سوى أنّ الوقت صار مناسباً لهؤلاء "من أجل القيامِ بعمليةٍ واسعة النطاق ضد "التهديد الزنجي" بعد تنديد جزءٍ من الزنوج الأفارقة تحت مظلمة افلام منذ ثلاث سنواتٍ بهيمنة البيظان (بيان الزنوج الموريتانيين المظلومين) وبعد إبدائهم طموحهم في قيادة البلاد (محاولة الانقلاب في 22 أكتوبر 1987) تأكدّ بالعديد من الشهادات بالإضافة إلى التحركات العفوية للجماعات وجود أعمال منظمة "في مدينة نواكشوط تتجهُ سياراتُ شحنٍ صغيرة إلى أهدافٍ محددةٍ سلفاً. أمام منازل السنغاليين الذين لم يكونوا بالفعل سوى موريتانيين زنوجاً، ينزلُ لحراطين - الأرقاء السابقين بأمر من أسيادهم. لقد كان عملهم الهدام الذي أنجزّ خلال ست وثلاثين ساعة بمثابة مفجرٍ لحالة من الجنون "العفوي" "الفتاك" على هذا النحو، ويبدو أن الأحداث تم استغلالها من طرف الجناح القوي من حركة الناصريين في النظام العسكري (حول تأثير المتصل بالبعث الاتجاه العراقي، راجع لموند بتاريخ 18 مايو 1989 ص: 10، و27 مايو 1989 ص: 3، وليبراسيوه 9 مايو 1989، ص: 19) الذي استخدم لحراطين في العملية القذرة: "الحراطين هم أساساً من هاجم الأحياء المأهولة بالسنغاليين في يومي 24، 25 إبريل في مدينة نواكشوط" وإذا كانت روابط الولاء التقليدية التي تربط لحراطين بالبيظان البيض تفسر جزئياً سلوكهم، فليس هناك من شك في أنهم يستفيدون من مغادرة عشرات الآلاف من الزنوج الأفارقة".

 

يشيرُ مارشزيه إلى أن "قوات الأمن سواء في السنغال أو في موريتانيا لم تتدخل بصرامةٍ من أجل الحد من هذه الأحداث. في موريتانيا سوف يتهم بعض المعارضين النظام لاحقاً بالتمالئ الفعلي. كذلك نشيرُ إلى أنّ العديد من الشهادات تنفي أن تكون هناك نظرة عنصرية وراء هذه الأحداث: ففي دكار كما في نواكشوط هبّ الكثير من الزنوج الأفارقة لمساعدة البيظان وقام البيظان في المدينتين بمساعدة الزنوج الأفارقة. على إثر هذه المجزرة نظمت فرنسا وأسبانيا والجزائر والمغرب جسراً جوياً من أجل نقل مواطني البلدين كل إلى وطنهِ. تم نقل سبعين ألف شخص في أقل من عشرة أيام. بعد المجازر بدأت الجولة الثانية من الأحداث والمتمثلةِ في تهجر موريتانيا لجزء من مواطنيها".

 

في خريف 1989 أعطت الصحف صورةً عن ذلك: "الهجرة الكبرى للزنوج الموريتانيين".. "شهادات اللاجئين تُزعج سلطات نواكشوط".."المنفى الإجباري للزنوج الموريتانيين". لقد بدأت السلطات الموريتانية حسب مارشزيه في التهجير - إضافةً للسنغاليين - المواطنين الزنوج الحاصلين على الجنسية بعد سنة 1960 وتساءل إن كان هذا إشارة ماكرة إلى أحداث 1966؟.

 

بعد العنف المادي جاءت المضايقة الإدارية ولإلقاء الضوءِ على هذا المعطى الأليم الجديد، يُخبرنا مارشزيه: "يستهدفُ الهالبولار أساساً من بين الزنوج الموريتانيين (فهم من يشكل في الأساس القوة الحية لحركة أفلام). كانت أعداد اللاجئين على الضفة اليسرى للنهر خلال شهر يوليو تعد بعشرات الآلاف. أخذت الحركة في غضون أسابيع مظهر تهجيرٍ حقيقي موجه بشكل خاص ضد الهالبولار... وضد "نزعتهم التحررية والوحدوية" التي يرى فيها البيضان البيض الذين يسيطرون على جهاز الدولة وعلى الاقتصاد تهديداً".

 

يرينا مارشزيـه إلى أيّ حدٍ كان هذا الإقصاءُ العشوائي فظيعاً "فمن ضمن ضحايا التصفية الإثنية كما وصفتها "لموند" نجدُ جزءً كبيراً من الموظفين العسكريين والجامعيين. كانت السلطات تقوم "بإتلافِ ممنهج لبطاقات الهوية والبطاقات المهنية وغيرها من الوثائق" في الوقت الذي ينادي فيه هؤلاء المبعدون بكل ما أوتوا من قوة بأنهم موريتانيون". لقد كانت الغالبية منهم ترغبُ في الرجوع إلى وطنها كما ينبهنا مارشزيـه، وهي مستعدة للجوء إلى القوة. في خريف سنة 1989 عبَر بعض شباب الفلان مياه النهر في اتجاه موريتانيا من أجلِ استعادة قطعانهم التي تركوها على الضفة اليمنى للنهر. وكان ذلك سبباً في عدة حوادث خلّفت أمواتاً".

 

لقد سجلت منظمة العفو الدّولية في تقريرها لتلك السّنة الدامية تعرض سكان الضّفة الزّنوج في الأشهر التي أعقبت الشّرارة الأولى لتجاوزاتٍ مُتكررة من طرفِ الشرطة والجيش الموريتانيين. يخبرنا مارشزيـيه أنّ قرى بكاملها من الزّنوج الموريتانيين انضمت إلى موجة اللاجئين في السنغال ومالي" وفي الوقت الذي كانت فيهِ حالة من الحرب الكامنة تخيمُ على الضّفة على حدّ تعبير مارشزيـيه كانتِ عمليات العصابات المُسلحة تزداد في جنوب البلاد. لقد كان التّوتر أكثر حدةً في أقصى الشّرق "حيثُ يستفيدُ السكان الزّنوج من بعض التمالئ من طرف مالي المجاور. بدأت المقاومة تنتظمُ عبر الضفة وفي مخيماتِ السنغال و بعض قرى مالي" .

 

يخلصُ مارشزيـه في هذا الصّدد إلى أنّ النّظام "أرادَ بتحريضٍ من العناصر البعثية والناصرية أن يُسوي بشكل نهائي القضية القومية على حساب الهالبولار الذين يمثلونَ خطراً على المستوى السياسي (رفض النظام الذي يهيمنُ عليهِ البيظان) كما يشكلونَ على المستوى الاقتصادي "حاجزاً يجبرُ على مراوحة المكان" رهان استثمار ضفة النّهر" ( انظر الجزء الثالث، الفصل: 11).

 

نتائجُ التّوجه العربي...

يذكر فيليب مارشزيـه أنّ شعار "موريتانيا دولة عربية" أصبح يُعلن بقوةٍ بعد أحداث 1989، "وهذا التوجهُ له مظاهر عديدة" ذكر من بينها الانتماء إتحاد المغرب العربي، وإصلاح الإدارة الترابية (تسمية الولايات و"المقاطعات") وتهجير عشرات الآلاف من الزّنوج الموريتانيين، وكذلك قطع العلاقات مع السّنغال...."وحتى اختفاء بعض عناصر الزّنوج من تحرير صحيفة "موريتانيا الغد" الفرانكفونية الرائدة".

 

لقد أدارت موريتانيا الظّهر لدورها كهمزة وصل وانكمشت في تقوقعها العربي المقيت. فما هيّ المصادر التي تتوفرُ عليها السلطة خلال السنتين 1989، 1990 وماّ هيّ أيضاً التّهديدات التي تتعرضُ لها؟. للإجابة على هذا السّؤال يضعنا مارشزيهِ في الصّورة عن قرب، ويذكرُ لنا أن النظام يتوفرُ على العديد من الأوراق الرابحة على المستوى الداخلي ويستفيد أيضاً من دعمٍ دولي. وقد سمحت الأزمة برصِ الّصفوف حول النظام من خلالِ تعزيزِ تماسكِ البيظان، فقد كان يكفي وجودُ تهديدٍ عدوٍ مشترك محتمل لبروز التّضامنات السّلبية المُشارِ إليها أنفاً. "ولكن وبصرفِ النّظرِ عن ردةِ الفعل الدفاعية الذاتية الهجومية فإنّ السّلطة بدت وكأنها تريدُ إعادة رسمِ الخريطة الديمغرافية لموريتانيا" وقد كان تهجيرِ الموريتانيين الزنوج إلى السنغال (من 45 ألف إلى أكثر من 100 ألف حسبَ مراقبين مختلفين) وإلى مالي (أكثر من 100 ألف) "قد تصادفَ مع استقبالِ أعدادٍ تترواحُ بين 120 ألف إلى 20 من البيظان القادمين من السنّغال. ويؤكد بعض البعثيين في نواكشوط على استعادة "التوازن القديم" مبررين ذلك باستئثار البيظان بالسّلطة".

 

لقد كانت مطالب الزّنوج الموريتانيين، كما رأينا ترتكزُ في جزءٍ منها على إقصائهم في الوقت الذي كانَ نموهم الديمغرافي أعلى من النّمو الديمرغرافي لدى البيظانِ منذ الاستقلال وهوّ ما أكدته دراسةِ لبعثةِ سيسو 1958، وقد ذهبت إلى أنّ نسبة التكاثر تقدرُ بالنسبةِ للبيظان البيض 7 في المائة و"البيظان السّود" بـ11 في المائة والسود القريونَ بـ24 في مائة، وهذا من يؤكدهُ مارشزيهِ من خلالِ إيرادهِ لاستطلاعِ مكتب الإحصاء سديس والذي أعطى للبيظان نسبة 15 في المائة، وأعطى للسود 19 في المائة وقد أحال في هذا الشأن كذلك لأطروحةِ فرانيسيس دي شاسيه "مساهمة في سيسيلوجيا التخلف مثال موريتانيا" وهيّ أطروحة في علم الاجتماع.

 

إنّ إحدى النتائجِ الإيجابية بالنّسبة للسلطة هيّ إعادة إعمار موريتانيا بالبيظان من الناحية السّكانية" وتتمثلُ هذه البراعة كذلك في وضع الحراطين في الصًّفوف الأمامية. فـالحراطين كما يؤكد مارشزيـه لم يكونوا فقط "قوة ضاربة أثناء الأحداث فقط، بل كانوا أيضاً يحتلون الخطوط الأمامية على ضفة النّهر حيث استولوا على أراضي ومواشي "المبعدين" بل إنّ النّظام وفق في تعيين بعض قياداتهم في مناصب هامة أملاً من خلال ذلك في تحسين صورتهِ على المستوى الدولي بعد أن أصبحَ يتهمُ بالعنصرية". وهوّ ما جعلنا "نشاهدُ كثيراً محمد الأمين ولد أحمد وزيراً للإعلام المعين بعد أحداث 1989 كما حظيّ خطابُ وزير الوظيفة العمومية محمد ولد الحيمر بمناسبة فاتح مايو بتغطية إعلامية مميزة". لقد "نجحت السّلطة إما عن طريق منح بعض الامتيازات التي توزعُ ببراعة وإما من خلال اللعب على وترِ التضامنات المتحدة المركز الحساسة ("أنا ضد أخي وأنا و أخي ضد ابن العم، وأنا و أخي و ابن العم ضد الكل" في رص صفوف البيظان الذين يبدو أنهم يقدمون لها دعماً، على الأقل فيما يخصُ المشكلة الزنوج واضعاً بذلك حداً مؤقتاً) للحرب الباردة القبلية". ويردفُ مارشزيه: "ولكن إلى أيّ حدٍ" وهنا تذكر: "لقد لاحظنا أثناء إقامةٍ في نواكشوط 1990 أنّ بعض البيظان يبدون بعض الآراء النقدية تجاه السّلطة أثناء الأحاديث الخاصة ولكنهم يسكتونَ بل يتراجعون عن أقوالهم عند ما يكونون بحضرة بيظانٍ آخرينَ محاولين بأيّ ثمنٍ تفادي أن يوضعوا في القائمة السّوداء".

 

لقد استفادت موريتانيا على المستوى الدولي أساساً من دعمِ العراق وكانت مواقفُ "الدول الشقيقة" العربية الأخرى مختلفاً بشكل واضح" لم تكن العلاقات مع العراق وليدةُ الأزمة فقد قطعت موريتانيا علاقتها مع إيران منذ سنة 1987 وكانت حينها في حربٍ مع العراق. بعد ذلك أصبحت العلاقات بين البلدين وقد كان العراقُ من الدول القليلة المدافعة عن موريتانيا". لقد "كان صدام ينوي أن يجعل من بلده ومن السودان وموريتانيا حدوداً للعالم العربي في الهجومُ الذي يقومُ به على امتدادِ القوس الساحلي المتأزم، باسم الوحدة العربية عن الجانب الشرقي ضد إيران ويدافعُ السّودان عن الجانب الجنوبي وموريتانيا عن الجانب الغربي".

 

وفرّ العراق لموريتانيا مساعدة عسكرية معتبرة منذُ أحداثِ 1989 و"قد أرسل إليها أيضاً مستشارين في مجال التّسلح وفضلاً عن ذلك فقد تعزز التعاون الثقافي وأخيراً كانت الصلة وثيقة مع التيار البعثي المتغلغل في أوساط الإدارة والجيش في موريتانيا" وقد اعتبر مارشزيهِ أنّ العراق حين يحظى بصورةٍ جيدة في نواكشوط فإنّ هذا أمر طبيعي وقد صرحّ وزير موريتاني لمجلة "إفريقية الفتية" في عددها: 1531 الصادر في السابع من مايو 1990: "لقد دعمونا.. ثمّ إن العراق بعيد. وبالتالي فإنّ نفوذه المحتمل محدود بفعل المسافة التي تفصلنا عنه".

 

"أقام العراق علاقةً مباشرة مع السلطة بعد أن كانت تلك العلاقة محصورةً في التيار البعثي المحلي. أعطت السلطة ضمانات جديدة لهذه الصداقة سنة 1990 من خلال العفو عن مدبري المؤامرة البعثية في شهر أغسطس من سنة 1988 ومن خلال تعيين اثنين من القيادة البعثية هما محمد يحظيه ولد ابريد الليل و المختار ولد حي على التوالي أميناً تنفيذياً للجنة العسكرية للخلاص الوطني ووزيراً للتهذيب الوطني".

 

أما مساعدة الدّول الأخرى غير العراق فيذكر مارشزيه أنها كانت سرية، لأنّ زعماءّ دول اتحاد المغرب العربي كانوا يريدون إظهارَ الحياد من النزاع الموريتاني السنغالي" ولو أنّ ممثلي الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أكدوا في مطلع سنة 1990 دعمهم لموريتانيا وعلى المستوى الثنائي فقد ظلت كل من تونس والجزائر وليبيا معتدلةً في دعمها".

 

أما جبهة البوليساريو "فقد أعلنت إثر الأحداث استعدادها لإرسال وحدات إلى الجيش الموريتاني وفتح معسكراتها التدريبية لجنودِ الاحتياط، ولم ترى موريتانيا ضرورةً لقبول هذا العرض، ذلك أنّ الصّحراء الغربية مجاورة لموريتانيا على خلاف العراق". ونحنُ نعلم من جهة أخرى تأثيرَ الصراع الصحراوي على المستوى السياسي الداخلي في موريتانيا. "لقد ظلّ الموقف الرّسمي لموريتانيا منذ انقلاب معاوية ولد الطايع موقفٌ يدعي الحياد التام. وفي الحقيقة فإنّ موقف موريتانيا غامضّ بعض شيء، في ما يخصُ الصّحراء الغربية، حيثُ تختلطُ علامات التقارب بمشاعر الحذر من جارٍ قد يصبحُ في موريتانيا غازياً" يجدُ مارشزيهِ من المهم هنا التّذكير "أولاً بالروابط العائلية الكثيرة التي تربطُ موريتانيين بأعضاء البوليزاريو وهيّ روابط عززّها نمّو التّيار الناصري - المنحاز تقليديا لليبيا والبوليساريو - في أوساط النخبة الموريتانية" فحتى بعد 1989 يؤكد مارشزيه أنه قد "ظهر تأثيرٌ للتيار البعثي القريب من العراق وقريب من المغرب ورغم التباين في مجال السياسية الخارجية، فإنّ التيارين لهما موقف متقارب حيال مشكلة السود".

 

يضيفُ مارشزيه لهذا "أنّ القضية الصحراوية كسبت مناصرين جدداً على إثر توتر العلاقات المغربية الموريتانية. غير أنّ عناصر التقارب هذه لا ينبغي أن تحجبُ الخشية لدى بعض الموريتانيين من البوليساريو، فقد تتراجعُ جبهة البوليزاريو بعد خيبة الأمل من الاستفتاء المرتقب، بقيادة العناصر الأكثر راديكالية، إلى الشمال الموريتاني، من أجل مواصلة القتال ضد المغرب مهددين بذلك استقرار موريتانيا بكاملها" ويضيفُ مارشزيه في هذا الصدد "ومن جهة أخرى فإنّ الكثير من الصحراويين الذين يرفضونَ سلفاً السيادة المغربية التي يرونها تقتربُ شيئاً فشيئاً قد بدؤوا في اللجوء إلى موريتانيا حيثُ يندمجون بسهولةٍ أكثر مما يندمجونَ في الجزائر. غير أن ذلك قد يؤثر على التوازن على المستوى القبلي في موريتانيا. فقد تصبحُ قبائل الشّمال وأركيبات خصوصاً، ذات أهمية فتهدد بذلك التوازن الهش الخاص بالنظام الانقسامي، إلاّ إذا كان تكوينُ "أمة بيظانية" يطغى على الخطر القادم من الجنوب. أوليس الصحراويين "بيظاناً"؟ وهنا يشيرُ مارشزيهِ إلى مراجعة "الكولونيل لوبرون في "الصّحراء الغربية معجزةً أو سراب" في مجلة "إفريقيا وآسيا الحديثة، العدد 159 شتاء 1988 و1989 ص: 26، للاقترابِ بشكلٍ أكثرَ ملامسةً للموضوع "ويذكر الكتاب" بالإضافة إلى الاستقطاب، الشمال - الجنوب "البداة الرّحل الذين يعبرون الجنوب المغربي أو الجنوب الجزائري أو أولئك الذين يعبرونَ إلى الساحل السنغالي أو النيجيري" بوحدةٍ إثنية البيظان "معقل حضارة صحراءٍ" مشتركة وأصيلة بلهجتها ونظامها الاجتماعي وأسلوب حياتها وبكلمة واحدة بثقافتها." ويضيفُ مارشزيهِ إلى هذا تساؤلا: "ألم يقترح الولي مصطفى السيد على المختار ولد داده بعيد رحيل الأسبان اتحاداً يضمُ الصحراء الغربية؟. لم تعطي نواكشوط جواباً على الاقتراح وكانت قد انخرطت في تحالفها مع الرباط، ومن جهةٍ أخرى ما كان لأحد أن يتصور أن الحركة الصحراوية سوف تكون فاعلاً يتعينُ أن يوضعُ له حساب إلى هذه الدرجة.

 

التهديدات..

يُميزّ فيليب مارشزيه بين التهديدات الداخلية والخارجية على غرار التمييز بين المصادر. فـ"في الداخل تعددت أسباب الصراع خاصةً في منطقة النهر حيثُ يواصل الجيش والحرس وميليشيات الحراطين المسلحة تجاوزاتها أساساً ضد الهالبولار. خُربت القرى وظلّ التهجير متواصلاً خلال سنة 1990 تجاه السنغال ومالي ولو أنه تراجع منذ نهاية سنة 1989. لقد "شكلت عشرات آلاف "المبعدين" نواة التوتر على امتداد ضفة النهر، كانوا يرفضون الاندماج في البلدان التي اتهموا فيها بحجة أنهم موريتانيون قبل كل شيء" ويذكروا مارشزيه أنهم كانوا وراء الهجمات العقابية التي يقام بها في موريتانيا من أجل استرجاع حقوقهم وممتلكاتهم: "هجمات ضد القرى التي يحتلها حراطين في الغالب ويقيمون فيها واستعادة المواشي فشيئاً فشيئاً كانت عصابات الفلان تُغِيرُ على قطيع الصوانك وطبعاً كانوا يدافعون عنها وقد انتهز النظام من فعل هؤلاء المغيرين - والذين يصفهم بعض سكان النهر بقطاع الطرق - فحرض الصّوانك على حمل السّلاح بغية خلق التفرقة بين الإثنيات السّوادء" حسبَ ما أخبرهُ أحد الحاضرين آنذاك في مقابلة شخصية.

 

لقد كانت هذه العمليات تتكررُ وتصبحُ أكثر تنظيماً من كونها صادرةً عن مجموعات منعزلة تقوم بشكل عفوي.

 

المقاومة تنتظم

كانت ثلاث مجموعات تقومُ بالكفاح المُسلّح وهيّ: "قوى التحرير الإفريقية" (افلام) و"الجبهة الموحدة من أجلِ المقاومة المسلحة في موريتانيا" (فورام) و"جبهة المقاومة من أجل الوحدة والاستقلال والديمقراطي في موريتانيا" (فرويدم).

 

يُخبرنا مارشزيه أن المجموعتان الأولتان تُعتبرانِ حركتي تحرير زنجتين موريتانيتين. لقد "أنشأ" "فورام" المنحدرينَ من حركة أفلام وهم في غالبيتهم عسكريون سابقون منظمتهم الخاصة من أجل التسريع بالمقاومة المسلحة. أما "أفلام" وهيّ حركة سياسية "فقد مضى عليها بعض الوقت قبل أن تتخذ قراراً من هذا القبيل (الدعوة لمؤتمر)". وعلى خلاف أفلام و"افورام" المكونتين من الزنوج الأفارقة فحسب فإنّ منظمة "فرويدم" "تؤكد بأنها تضمُ في صفوفها بعض عناصر البيظان". نقفُ هنا على الاختلاف بين القوميين والزنوج الأفارقة والحركة الوطنية الديمقراطية "أم أن دي" ذات التّوجهِ الماركسي، حيثُ نجدُ "فرويدم" تضمُ بعض عناصر الحركة الوطنية الديمقراطية "أم أن دي". "تأخذُ "فوريدم" على القوميين الزنوج الأفارقة نزعتهم الطائفية التي يصفونها "القومية الضيقة" ويرفضُ هؤلاء الموقف "المنفتح" أكثر من اللازم لحركة "فرويدم" ويعطون قيمة أكثر "للواقع الثقافي" مما يعطونه لـ "تحليل الطبقات".

 

إنّ هذه الخلافات يذكرُ لنا مارشزيه أنها تظهرُ في الموقف من الكفاح المسلح. "ففي الوقت الذي كانت فيه حركة "فرويديم" تستهدفٌ العناصر المسلحة في إطار "عنصرية الدولة" فحسب، لم تكن حركة أفلام "افلام" تترددُ في الهجومِ أيضاً على بعض المدنين وخاصةً على الحراطين الموجودين على الضفة من أجل صدهم عن المشاركة في مخُطط السلّطة" وقد شرحنا في بداية القراءة الطريقة التي تموقعَ فيها لحراطين ليكونوا طلائعَ الفاشيين الجدد، وقد غذى هذا التوجه القاسي الرغبة في الاستفادة حيثُ اعتبرهم مارشزيه الرابح الأول من تهجير الزّنوج الموريتانيين، ولعلّ العودةِ قليلاٍ بالذاكرة للوراء، تجعلنا نتذكرُ سجالَ بالاس وبيجل في قصر المؤتمرات في الحوار الأخير، وكيفَ أنبرى الأخير يرغي ويزبد. إنها يقظةً مفاجئة لسنينَ الفقدِ التي لا تمكن ماضياً حتى الآن.

 

"وعلى الرغم من هذه الاختلافات فإنّ كل حركاتِ المقاومة مصممة على مواجهة النّظام وترى حركة أفلام أنّ "الكفاح المسلح (ضد نظام ولد الطايع) هوّ خيار لا رجعةَ فيه" أما حركة "فروديم" فترى أنّ "التاريخ يدعو الزنوج الأفارقة الموريتانيين إلى الصمود والمحافظة على ممتلكاتهم وإلى الاحتفاظِ بأرضِ أجدادهم وإلى المقاومة بجميع أشكالها.. وأن يضحوا من أجل ذلك بأرواحهم" كان ذلك "إعلانُ 24 أغسطس 1985".

 

بطبيعة الحال كانت لحربِ "العصابات" هذه تأثيرٌ واسع على الاقتصاد الوطني الهش، فقد تعرقلت مشاريع التنمية المرتبطة باستثمار نهر السنغال. يذكر مارشزيه أن الإنفاق العسكري زاد على النفقات الإنتاجية. وقد "نظمت في مدنِ ألاك وكيفة، ولعيون، خلال سنة 1990 مظاهراتٍ ضد غلاء المعيشة في ظروفٍ متأزمة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية".

 

لقد ظهرت على مستوى الجبهة الداخلية خلافاتٍ بين مجموعة البيظان، ويذكرُ مارشزيه أن رجال الأعمال الذين يتاجرونَ مع السنغال سجلوا نقصاً في مكاسبهم التجارية. "كذلك تأثرت منطقة اترارزة وهيّ منطقة عبورٍ وتبادل مع السنغال من القطيعة مع الجار الجنوبي". لقد "كان تعيينُ وزير داخلية منحدرٌ من هذه الولاية في شهر فبراير من سنة 1990 وهوّ العقيد محمد سيدينا ولد سيدينا، مؤشراً في ما يبدو على الانفراج" . لقد حلّ إذاً هذا الوزير الجديد محلّ جبريل ولد عبد الله، قبل أن يقالَ الأول بعد ثلاثة أشهر وهوّ "ما أصبحَ يمكنُ فهمهُ على أنّه مثال بسيط على معدل الاستقرار في الوظائف الذي فرضهُ الترحال السياسي، يبدوُ وكأنّه تأكيدٌ على موقف الرئيس المتمثل في الرّجوع إلى قبيلتيهِ لتعيين العديد من أفرادها في مناصب حساسة في الجيش وقوى الأمن" فكان تعيين المفوض دداهي ولد عبد الله مدير أمن الدّولة "وهوّ أبن أخت الرّئيس الملازم أول عبد الرحمن ولد لكور قائد القوات البحرية وهوّ أبن عمهِ والمقدم محمد أحمد ولد الصبار والمقدم محمد ولد ابيليل، والرائد أحمد سالم ولد ممون وكلّ هؤلاء قواد مناطق عسكرية من قبيلة الرّئيس" يضيفُ مارشزيه: "القائد العام للقوات المُسلحة محمد الأمين ولد أنجيان وهوّ كذلك من ولاية آدرار التي ينحدر منها الرئيس" . يذكرُ مارشزيه أنّ هذا التمثيل الزائد لقبيلة الرئيس أغضب مجموعاتِ البيظان الأخرى "بالإضافة إلى أنّه يَظهرُ كذلك على المستوى الاقتصادي." لقد أصبح معاوية عرضةً لنقمة قبائل البيظان الأخرى من خلال إفراطهِ في اللعب بورقةِ القبيلة." لقد كان يزداد في عزلتهِ يوماً بعد يوم في قصره وهوّ يحتمي بالحرس الرئاسي" المكون حصراً من قبيلته".

 

إن التهديدات الخارجية كانت تتعلقُ بالدرجة الأولى بالسنغال، وكما رأينا، فقد "انهارت العلاقات بين نواكشوط ودكار بسرعة إثر أحداث 1989 تلك الأحداث التي أظهرت، من الناحية الإثنية روابط القرابة حول ضفتي النّهر. خلال عامٍ ونصف لم يوجدُ بعد، مجازرِ إبريل 1989، أي اتصال بين البلدين: إغلاق الحدود البرية، توقفُ الرحالات الجوية، قطع العلاقات الدبلوماسية. وإلغاء رابط الهاتف.

 

يفيدُ مارشزيهُ أنّه في بداية 1990 حصلت مواجهة بالمدفعية الثقيلة بيت الجيشين السنغالي والموريتاني. "خيمُ جو حربٍ كامنة على حدودِ البلدين. ازداد التوتر أيضاً بالإعلان عن بناء العراق محطة إطلاق صواريخ، وهوّ إعلان لم تكذبه موريتانيا على الرغم من أنّه غير محتمل، مع أنّه تهديد مباشر للسنغال. أثار احتمال إنشاء محطةٍ من هذا القبيل قلق الولايات المتحدة لأنّه يصلح أيضاً لإطلاق الصواريخ البالستية ولأنّ موريتانيا تمتلك صحاري شاسعة ولها حدود واسعة مطلةً على المحيط الأطلسي" ولا بأس هنا أن نّذكر أن المترجم الخاص لصدام حسين، ذكر في كتابه "سنوات صدام" (ص: 121): "في السبعينات كان صدّام قد بدأ يستقطب حوله بعض «الزبائن» الأفارقة. فقد صار جزء من الريع النفطي يُعاد ضخُّه في هذه البلدان النامية، في شكل مساعدات مباشرة أو استثمارات. وقد موّل صدّام، مثلاً، العديد من المشروعات الزراعية في موريتانيا، ذلك البلد الذي كان يُقيم علاقات تعاون وثيق مع بغداد، الأمر الذي أتاح لحزب البعث أن يمارس تأثيره على نواكشوط". (حققّ صدام حسين وجماعتهُ استثمارات شخصية في موريتانيا، التي كانت تقامُ فيها تجارب صواريخ سكود).

 

يذكرُ مارشزيه أنّ العديد من المراقبين حينها لاحظوا يداً خفية لموريتانيا في تجددِ نشاط العصابات المسلحة في إقليم كازاماس "فقد أصبح الانفصاليونَ يستخدمونَ الأسلحة الأوتوماتيكية بعد أن لم يكن لديهم سوى أسلحة تقليدية". لقد أصبحتِ العودةُ إلى حالة السّلم أمراً مُستبعداً بعد وساطة رئيس المنظمة الوحدة الإفريقية موسى تراتورى. وبعد وساطة الرئيس المصري حسني مبارك نشب"الصّراع الحاد والعميق بين نواكشوط ودكار ويبدو أنّه غير قابلٍ للحل حسب المراقبين ومن جهةٍ أخرى لا يزالُ إطلاقُ النّار متواصلاً على الحدود بين البلدين" كما ذكرت صحيفة آنذاك.

 

في الواقع لا يبدوُ من السّهولة بمكانٍ التوفيقَ بينَ شروطِ التّسوية، فيذكر مارشزيه أنّ موريتانيا تطالب بتأمينِ وعودة "اللاجئين الموريتانيين المحتجزين في السنغال" واستعادة الأموال المحجوزة وتعويض العائدين أما السنغال فيطالبُ بتعويض السنغاليين المبعدين وعودة الموريتانيين الزنوج المبعدين واستعادة الأراضي الزراعية التي يستغلها السنغاليونَ تقليدياً على ضفة النّهر وتطرحُ هذه المسألة الأخيرة مشكلة الحدود بين البلدين".

 

لقد "كان السنغال يرغبُ في رسمٍ للحدود على الضفة اليمنى بحيثُ تكونَ تحت حوزتهِ كل المنطقة التي تغطيها مياهُ النّهر وكان يعتمدُ على نصوص تعودُ إلى العهد الاستعماري أمّا موريتانيا فمرجعتيها هي المبادئ التي تكرسها منظمة الوحدة الإفريقية حول عدم المساس بالحدود فكانت تسعى إلى بسط نفوذها على الضفة الشمالية للنهر والتي كانت تحدُ أراضيها أيام الاستقلال كما تسعى إلى أن تتقاسم مع جارتها رقابة الملاحة على الممر المائي".

 

أوضح عبدو جوف فيما بعد أن مشكلة الحدود ليست شرطاً مبدئياً ولو أنّها ينبغي أن تدرجَ في جدولِ أعمال المفاوضات بين البلدين.

 

لم تكن العلاقاتُ مع الجار الجنوبي أسوءَ منها مع الجار "الشّمالي"، فقد كانت هي الأخرى هزّيلة على حد تعبير مارشزيـه، فموريتانيا لم تكن راضيةً عن تمثيل المغربِ للمصالحِ السّنغالية بعد قطعها العلاقات معها "ذلك ما يُفسرُ رفض اتحاد المغرب العربي، على لسان ملك المغرب الذي يتولى رئاستهُ الأولى التّدخل في النّزاع بصفتهِ رئيساً للاتحاد" وسرعان ما ظهرت حدودُ تضامن المجموعة الإقليمية الجديدة التي ربما تكونُ موريتانيا قد تطلعت إلى دورها ذلك لأنّ اتحاد المغرب العربي تأسسَ على ضروراتٍ اقتصادية أكثر مما تأسس على أيدلوجية عربية وحدودية وذلكَ ما يفسرهُ حسب مارشزيه "اختيار المغرب الذي وصف وزيرهُ الأول السّنغال بأنّه "بلد صديق" وبأنّ موريتانيا "بلد مجاور".

 

إنّ السنغال هوّ الدّولة الإفريقية السّوداء التي تقيمُ أقوى العلاقاتِ مع العالم العربي، وخاصةً مع المغرب ومن جهةٍ أخرى فإنّ السنغال بلد مسلم "فلم يكن المغرب راغباً في الإضرار بالعلاقات الجيدة التي تربطهُ مع السنغال والإساءة إلى صورة العالم العربي في إفريقيا السوداء إذ هوّ ساند موريتانيا". يضيفُ مارشزيهِ في ذات السياق إنّ المغرب لا تزالُ علاقاتهِ متوترة مع نواكشوط بسبب القضية الصّحرواية. "فالمغرب يشتكي بالدوام من هجمات الوليساريو انطلاقاً من الأراضي الموريتانية، لقد بلغَ التوتر بين البلدين أوجهه أثناء القمة الثانية للاتحاد المغرب العربي في يناير سنة 1990. "لقد كان سبب غياب الرئيس الموريتاني عن القمة كما يذكرُ مارشزيه ليس الحداد كما قيل، لكنّه "في الواقع استياء موريتانيا من الموقف المغربي. وقد كتبت إحدى الصّحف حينه: "تأخذ موريتانيا على المغرب كونهُ منحازاً للسنغال في النزاع القائم بينها وبينه، وتعتقدُ أنّ للمغرب أطماعاً في أراضيها. فلا يستبعدُ القادة الموريتانيون، أن يضم المغرب جزءً من الأراضي الموريتانية إذا ما هاجمت القوات السنغالية هذا البلد وسيطرت على الضفة اليمنى لنهر السنغال" ولا يزالُ حسب مارشزيه: "شبحُ المغرب الكبير (الذي يشملُ موريتانيا والصحراء الغربية) يخيمُ على العلاقات بين البلدين". وخلال سنة 1989 أٌقيمت مظاهرات في نواكشوط ضد المغرب لأنّه أصبح يمثلُ المصالح السنغالية في موريتانيا وكانت قبيلة الرقيبات (الموالية للبوليساريو) نشطةً في تنظيم هذه المظاهرات حسب (نشرة إفريقيا السرية) بتاريخ: 22 سبتمبر 1989، والتي اطلع عليها مارشزيه.

 

ويضيفُ لـ"خلاصة التّوتر في الجوار المباشر لموريتانيا" الهجوم المتكرر خلال سنة 1990 بين موريتانيين مع الجيش المالي، "يتعلقُ الأمرُ في الغالب بمصادمات مع مليشيات من لحراطين تعبرُ الحدود لتهاجم قرى من فلان واصوانك"

 

خاتمة:

انعكس انهيار وضعية موريتانيا ضمن دول شبه المنطقة على صورتها على المستوى الدولي، جاءت الاتهامات الأكثر دقةً والأخطر من منظمة العفو الدّولية وقد جاءَ في أحد بياناتها وقعَ في 15 من يونيو 1990: "يُستهدفُ السكان الزّنوج في الجنوب الموريتاني، منذ سنة من قبل القوات الحُكومية التي هجرت إلى السنغال عشرات الآلاف من الأشخاص. خلال هذا التهجير تم تسجيل العديد من حالات التوقيف والاعتقال التعسفي والتّعذيب والاغتصاب والإعدام دون محاكمة حتى الآن. وبالرغم من نداءاتنا الملحة التي لا يبدو أنّ أي إجراءٍ اتخذ من طرف السلطات الموريتانية من أجل وضع حدٍ للتجاوزات". وحسب مارشزيه فقد كذبت نواكشوط تقارير منظمة العفو الدولية وتساءلت "لماذا تسلكُ منظمة العفو الدولية هذا السلوك مع شعب تجهل تاريخهُ و ظروفه؟". ويرى مارشزيه أنّ هذا النوع من الحجج لم يكن ليقنع بل "إنّه يدخلُ في عدادِ التًّصريحات والمواقف الرّسمية التي يصعبُ الدفاع عنها" وما أكثرها في واقعنا اليوم.