على مدار الساعة

هل يكفي الموت واعظا لِسَاسَتِنا؟

3 مارس, 2019 - 16:16
بقلم: عبد القادر ولد الصيّام - ouldsiyam@gmail.com

في كل يوم نودع أمواتا، ومِن هؤلاء الأموات مسؤولون كبار ابتلاهم الله تعالى بمناصب ومسؤوليات كبيرة، وقد فقدنا خلال السنوات الماضية بعض الرؤساء والوزراء والنواب والسفراء والمسؤولين المدنيين والعسكريين، وقد مات بعضهم فجأة، ومات بعضهم بسبب حوادث السير، ومات آخرون بعد معاناة مع المرض. رحمهم الله جميعا.

 

وهذا المقال تحذير لنفسي ولزملائي ولبقية المواطنين والمسؤولين حول خطورة الغلول والفساد المالي والطغيان والتكبّر في الأرض, وتنبيه على أن بعض مَن تولى مناصب عليا في هذا البلد قد مات.

 

وخرج مِن الدنيا وليس معه إلا كـَفن، وسنصير – جميعا - إلى ما صاروا إليه - ولا يسْعى هذا المقال للحكم على من ماتوا بقدر ما ينبّه الأحياء إن رغبوا في سماع النصيحة والتحذير، وأرجو أن يكون فيه عظة لهم حول خطر المسؤولية تجاه شعبهم، وتحذير لهم من عواقب الظلم والخيانة والغلول - وأضيف لهؤلاء بعض الطامحين للرئاسة والمقربين منهم ممن يبحثون عن السلطة والثراء السريع على حساب الشعب المغلوب على أمره.

 

ومع أن الموت حق ولن ينجو منه أحد - كما قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم - في سورة الزمر -: {إنك ميت وإنهم ميتون} رغم ذلك إلا أن موت الفجأة وموت المشاهير لهما دور كبير في التأثير في نفوس بعض العقلاء الذين يُزهّدهم ذلك في التنافس في الدنيا وطلب الرئاسة والسلطة، ورغم أن حب السلطة والمال غريزة بشرية {وإنه لحب الخير لشديد} إلا أن الشعوب استطاعت أن تقلّل من تسلّط قادتها واختلاسهم لأموالها بردع دنيوي يتمثل في المساءلة السياسية (عبر البرلمان) والقانونية (عبر مفتشيات الدولة والقضاء) وربما تتم إقالة و / أو محاكمة بعض المسؤولين لأسباب تتعلق بذلك (كما شاهدنا في كوريا الجنوبية في مارس 2017 حيث أقال البرلمان رئيسة البلاد "بارك غوين هاي" وصادقت المحكمة العليا على ذلك، والسبب هو العلاقة التي ربطتها بـ"تشوي سون - سيل" حيث استغلّت الأخيرة صلتها بالرئاسة، وضغطت على شركات للتبرع بملايين الدولارات لصالح الجمعيات الخيرية التي تديرها، وفي البرازيل حيث تم سجن الرئيس السابق "لويس إيناسيو لولا دا سيلفا" في إبريل 2018 لمدة اثني عشر عاما بسبب "تلقيه رشاوى من بينها شقة فخمة من شركة بناء مقابل امتيازات في مناقصة عامة".

 

كما تقوم المجتمعات المتديّنة بتحذير قادتها ومسؤوليها من خطورة "الغلول" و"الخيانة" والشطط في استخدام السلطة، وذلك من خلال استخدام النصوص الدينية المتعلقة بذلك لعلها تُحيي ضمائرهم وتذكّرهم بخالقهم - سبحانه وتعالى - وبالنسبة للمسلمين، فإن النصوص المتعلقة بذلك كثيرة معلومة، ومِنها:

  1. قوله تعالى - في سورة آل عمران -: {ومَن غلّ يأتِ بِما غّلّ يوم القيامة}.
  2. ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة".
  3. ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره، ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك! (الحديث...).
  4. ما رواه البخاري عن خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ رِجَالًا يتخَوَّضُون فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
  5. ما رواه الشيخان عن الحسن قال: عادَ عُبيدُ الله بن زياد معقلَ بن يسار المزني - في مرضه الذي مات فيه - فقال له معقل: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة"، و في رواية لمسلم: "ثم لا يجهَد لهم وينصح".

 

وحينما يقوم القادة بـ"تحصين" أنفسهم من المساءلة الدنيوية عبر دساتير يكتبونها وعبر نظام قضائي تابع لهم وبرلمان يسبّح بحمدهم ومفتشين يحتاجون لمن يفتشهم - يُستَخدَمون لتخويف المخالفين ويَتغاضون عن خطيئات السادة والكبراء والمقربين منهم - فإنه لا ينبغي للمجتمع ولا لقادته الدينيين والسياسيين تقديم "صكوك غفران" تزيد من جشع المختلسين وأكَـلـَة المال العام، فإذا لم يَخَفْ هؤلاء من المساءلة والعار في الدنيا فلا بد أن يبقى "سيف" الخزي والعذاب في الآخرة مُصلَتا في وجوههم علّ ذلك يؤدي إلى تقليل ما سيبتلعونه من أموال الشعوب المسكينة المغلوبة على أمرها، أو لعله يكون غصّة في حناجرهم وبطونهم المتخمة بالسحت والأموال العامة، ولعل أنّات المرضى وصرخات الأطفال واليتامى الجوعى ترنّ في آذانهم فتمنعهم النوم وتُفسد عليهم خلواتهم ومتَعهم!

 

إن موريتانيا بلد صغير ذو موارد اقتصادية كثيرة، وقد حصل طيلة العقود الخمسة الماضية على تمويلات كثيرة تكفي لجعله "اسويسرا" إفريقيا، و لكن غلول كثير من المسؤولين وعدم تورّعهم عن أكل أموال ومشاريع وهِبات وقروض البلد جعلت بعض "القطط السمان" تملك أكثر مما تملك الدولة، وجعلت بعض الموظفين يملك ما لا يستطيع توفير عُشُره من راتبه لو عاش عمر نوح - عليه السلام - وجعلت من بعض "المورّدين" و"التجار" أباطرة مشاركين لكل حاكم وسلطة في اختلاس المال العام والثراء الفاحش الذي يتفاخرون به ويظهر من خلال الممتلكات الكثيرة والسيارات الفارهة والنفقات العلنية التي لا مصدر لها سواء "الغلول والمال الحرام" في الوقت الذي يكدح فيه مواطنون شرفاء في الداخل والخارج - ويواجهون الصعوبات والمخاطر - من أجل توفير عيش كريم لهم ولأهليهم، وهم يشاهدون بعض أبناء المسؤولين "يلعبون" بالملايين والمليارات!

 

لقد رأينا بعض "المسؤولين" السابقين الذين بلغت تركتهم مئات الملايين بل المليارات - ولم تكن مصادر دخلهم سوى مؤسسات عمومية تربّعوا عليها طيلة عقود من الزمن واستأثروا بمداخيلها عن الخزينة والناس، ومع ذلك فقد ماتوا وتركوها لغيرهم وسيُسألون عنها ويُحاسبون عليها، وهي حقوق عامة لملايين الناس، ولم نسمع أن ورثة تورّعوا عن مال حرام ورثوه!

 

لقد آن لساستنا ورجال أعمالنا وقبائلنا ومفكرينا أن يرحموا شعبنا المسكين ويتورّعوا عن أكل ماله ويهجروا من يفعل ذلك، وأن يُرجعوا للشعب حقوقه، وأن يُلبّوا للطلاب حاجاتهم، ويَصرفوا للمرضى مخصصاتهم وللطرق نصيبها من الميزانية، وأن يُقسطوا في منح القطع الأرضية والصفقات العمومية والامتيازات والتعيينات المتنوعة، وأن يعلموا أن من يتصدق من المال الحرام كمن يتطهّر بالبول ويُصلي بالجنابة، وأنّ غَضَبَ الله سيعُمّهم إن هم واصلوا نهج اختلاس المال العام وإفقار البلد وسكًانه وظلمهم دون خوف من أحد!

 

ويجب علينا تذكير الحكام بخطر إغلاق مؤسسات المجتمع التعليمية والخيرية، ورفض ذلك -بكل الطرق السلمية - حيث إنه - رغم كل ما يمكن أن يحدث في هذه المؤسسات من خلل - فإنه يمكن محاسبة المسؤولين عنه وتقديمهم للعدالة والحفاظ على هذه المؤسسات وأدوراها التي تعجز عنها الحكومة أو ترفض القيام بها، ولا ينبغي معاقبة المستفيدين بسبب نزوات سياسية يسعى أصحابها للانتقام من جهات معيّنة تحسدها السلطة على توفير الكثير من الخدمات بمصادر محدودة أو إرضاء لجهات خارجية، وفي ذلك من الظلم والشطط في استخدام السلطة ما لا يخفى على عاقل!

 

وممّا يجب علينا – كذلك - تذكير أنفسنا و"مسؤولينا" بـ"هادم اللذات" و"مفرّق الجماعات"، وأن يقول كل مواطن أنه: "يُشهد الله والملائكة و الناس أجمعين" أنه "لن يُسامح مَن ظلمه أو أخذ حقه" حتى يكون القصاص "يوم لا ينفع مال ولا بنون" حتى لا تضيع حقوق الناس - غصبا في حياة المسؤولين - وتُعفى – طوعا - بعد موتهم دون أن يعتبر الحكّام والمسؤولون الأحياء ليتمتعوا بعفو "مجاني" من مواطنين سذّج أكلوا أموالهم وأغلقوا مؤسساتهم وهيئاتهم التعليمية والخيرية، وأرهبوهم في حياتهم ليغادروا هذه الدنيا مغفورا لهم وإلى "جنة الفردوس"!

 

وختاما، فلا يخفي ما للحاكم العادل من أهمية وفضل وأنه أول "السبعة الذين يُظلهم الله في ظله"، كما أنّ المقسطين "على منابرَ من نور يوم القيامة عن يمين الرحمان - و كلتا يديه يمين -: "الذين يَعدلون في أنفسهم وأهليهم وما وَلوا" وينبغي لنا جميعا أن نحرص على العدل في القول {وإذا قلتم فاعدلوا} وأن نَقـْسِم بالسوية وأن نخشى من خطورة الظلم والطغيان والغلول، وأن نعلم بأن بَعدَ هذه الحياة موتا {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى} وبَعدَ الموت قبرا ونشورا وحسابا وجَزاء - إنْ خيرا فخيرا وإنْ شرا فشرا- فهل يكفي الموت واعظا لساستنا؟