على مدار الساعة

صورةٌ تهتـزّ

23 أكتوبر, 2019 - 19:11
الحسن بن امّانه

إن تعظيم العلماء تعظيمٌ لشعيرة العلم لا لذوات الأفراد، وهو موقف شرعي أخلاقيٌ راسخ لا يَنزاح ما بقيتْ في الناس بقيةُ إيمان، ومهما صاحَ ذووا الأفكار المُهترئة لن يُلصقوا دنساً بثوب الوقار ولباس التقوى ..

 

ومن تكنْ همّةُ الأقدار نُصرتُهُ *** لم تقدر الناسُ أن تُوهى له شانا

 

ولكن :

سادتنا العلماء والفقهاء الموريتانيون المعاصرون الأفاضل على سعة علومهم وعلوّ كُعوبهم في فهم دلالات النصوص، هادنوا الظالمين وازْورّوا عنهم بالمواعظ قاصرينَ إياها على الفقراء وساكني أحياء الصفيح ..

 

تتابعَ هذا النهج والنمط حتى أوشك أن يُملّ، إذ صار فيه ابتذالٌ وحامت حوله الشبهات، فكيف تنصبّ المواعظ على المظلوم الفقير الذي يكفيه من ذكر هول القيامة ما يُعانيه من أهوال البؤس وغياب العدل، بينما يُهشُّ ويُبشّ في وجوه أكلة المال العام وناهبي الثروات الفسَقة ..

 

غياب السادة العلماء والفقهاء عن مواقف إنكار غسيل الأموال المشبوهة، وإفقار الشعب بالأقساط الربوية الضخمة المصاحبة لصفقات الاقتراض ..

 

غيابهم عن إنكار نهب الثروات جهاراً نهاراً، عن سرقات الوزراء والمدراء وأكابر الجيش، عن إنكار الزبونية والمحسوبية والظلم المتفشّي في المسابقات الوطنية ..

 

غيباهم عن المطالبة منذ زمان بمحاسبة تجار الموت، باعة الأدوية المزورة، وإصلاح المنظومة الصحية، غيابهم عن المطالبة بسقي العطاش في شتّي المدن، عن المطالبة بتوفير الكهرباء لساكنة المدن الداخلية الساخنة ..

 

غيابهم عن الإنكار على الرئيس حين يوظف صاحب سوابقِ سرقة على رأس مؤسسة حساسة، عن إنكار عبث محيط الرئيس الأسري بمفاصل الدولة، عن تبذير أبناء الأكابر وتفقير أبناء الضعفاء ..

 

غيابهم بشكل كامل عن استشعار هموم وأوجاع الفقراء، عن إيصال صوت المحرومين ومن لا صوت لهم، غيابهم عن الوقف إلى جانب القضايا الوطنية العادلة، عن السعي إلى رفع المظالم والعدالة في توزيع الثروات ..

 

بينما انصبّ تركيزهم على الإنكار على الفقراء والضعفاء موزّعين ما بينهم للترهيب والترغيب، مشنّعين في كل شيء حتى في موسيقى يتناسى بها الفقير المكلوم واقعه البائس فيسرح في عالم الخيال، خروجٌ مؤقّت من عالم الأوجاع والمظالم ..

 

تتبّعُ السادة الفقهاء لخطى الفقير وعدّ أنفاسه عليه، لدرجة أن السادة في المجلس الأعلى للفتوى والمظالم أصحاب الرواتب الضخمة، ما وسعهم إلا أن يُصدروا فتوى تحريم زواج السرية على ساكنة الگژرات وأحياء الصفيح مارس 2016 متجاهلين أن الأسباب الدافعة إليه هي سكوتهم على نهب سادتهم في الحكم المُوصلِ إلى إفقار القاعدة الشعبية، فحكموا على الأعراض وأغمضوا أعينهم عن أصل الداء ومنبعِه ..

 

لقد أقصرَ سادتنا الفقهاء والعلماء الأفاضل أحكام الإسلام على تبيان الأنكحة والحيض والنفاس والمواعظ، وأهملوا القضايا الكبرى التي هي الأصل الأصيل لكثير من الظواهر المُنكرة المعاشة في الشوارع، فبلّغوا بعض الكتاب وسكتوا عن بعض، تأويلا أو خوفا، إلا المرحومون، وقليلٌ ما هم ..

 

تعاليهم على الناس في سياراتهم الفارهة المكيفة، وحضّهم لهم على الزهد والرغبة فيما أعدّه الله للفقراء في الآخرة، كلها أمور من بين أخرى زعزعت " قداستهم" في أعين العامة ووضعت على حركاتهم وسكناتهم علاماتِ استفهام قاطبةِ الجبين !..

 

وختاما، لا يسع المرء حين يتحدث عن مواقف العلماء إلا أن يعود إلى أواسط القرن الثامن ميلادياً حيث تحدّث الإمام سفيان الثوري قائلا :

أُدخلتُ على الخليفة أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي :ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله، فقد ملأت الأرض ظلمًا وجوراً ..

 

فطأطأ رأسه ثم رفعه، وقال : ارفع إلينا حاجتك، فقلتُ: إنما أُنزلتَ هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم ..

 

فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك يا سفيان، فقلت: حجّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهمًا ..

 

وإني لأرى ها هنا أموالاً لا تطيق لها الجمال حملاً!..