على مدار الساعة

الاستراتيجية البحرية الشمولية

4 مارس, 2021 - 23:44
سيدي محمد ولد محمد الشيخ ولد محمد ولد ا محمد شين - المهندس والخبير في الشؤون البحرية

يعتبر البحر وسطا موحشا له قوانينه ومعايره ونظمه الخاصة به والموحدة دوليا بإشراف من المنظمة الدولية البحرية(OMI)  ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) التابعتين للأمم المتحدة وبمتابعة حثيثة من المنظمات المهنية والحرة المتخصصة في مختلف مجالاته والتي تشهد تطورا مستمرا من حيث التكنولوجيا والنظم والمعايير في مختلف عمليات الصيد والنقل والخدمات البحرية.

 

هذه الخصوصية البحرية فرضت تطبيق استراتيجيات شمولية لتوحيد النظم والضوابط حسب المعايير الدولية المتعارف عليها في مختلف العمليات البحرية وخاصة في مجال السلامة والأمن والمحافظة على البيئة البحرية. فأجمع خبراء هذه المنظمات الدولية على أن النظرة الشمولية هي فعلا أحسن طريق لضمان تطوير متزامن ومتكامل للعوامل الأربعة الأزمة لمزاولة أي نشاط في الوسط البحري والتي هي [العمالة، السفن، الموانئ، والثروة المستخرجة]. ولأن كافة هذه الأنشطة من صيد أو نقل أو خدمات أو ترفيه تمارس بنفس العناصر الأساسية الأربعة التالية:

1. العنصر البشري بحارة صيد أو نقل أو ترفيه...

2. آلية الإنتاج أو النقل السفن مهما اختلف طولها أو عرضها أو حجمها أو تجهيزها...

3. المخزون المستخرج أو المنقول سمك أو بترول أو غاز أو بضاعة أو...

4. الموانئ لرسو السفن وتفريغ المنتوج سواء كان سمكا أو بترولا أو بضاعة أو...

 

كما أن اتفاقية الأمم المتحدة الاساسية لقانون البحار الموقعة سنة 1982 في(MONTEGO BAY) والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالسلامة والأمن البحريين قد أعطت مسؤوليات جديدة وفرضت التزامات ونظم ومعايير موحدة على الدول المطلة على البحر في ميدان استغلال هذه الموارد البحرية، وحماية البيئة البحرية، والسلامة والأمن، وتسيير المرافق المينائية. هذه المسؤوليات تتطلب حتما تعزيز القدرات البشرية والمادية والتقنية والمالية للإدارات البحرية الوطنية المعنية من أجل الوفاء بتلك النظم والمعايير التقنية.

 

 هنا بدأت غالبية البلدان البحرية على الفور في إعادة تركيز وتنظيم وتنسيق كافة جهودها الفردية وتنظيم نفسها على المستوى الإقليمي في مذكرات تفاهم من أجل لعب دورها واتخاذ إجراءات أكثر تماسكا وأكثر فعالية في هذا الوسط الموحش.

 

كما شكل تنامي ظاهرة تعرض وشحن البضائع المتنوعة المنقولة بحرا للخطر، فضلا عن تطوير أنشطة اقتصادية وترفيهية أخرى، إلى تغيير دور الدولة في عرض البحر حسب المنظومة القانونية البحرية الدولية الموحدة حيث أصبح المصطلح المتعارف عليه لتعريف "دور الدولة المدني في البحر" يشمل كافة الأنشطة، باستثناء تلك المتعلقة بالدفاع الوطني. وبالتالي أصبح متنوعا حسب نظم ومعايير النشاط المزاول فتارة يكون تنظيميا وتارة إداريا وأحيانا تسيير يا، وأحيانا أخرى تنفيذيا وكذلك شرطيا.

 

في الواقع تلعب الدولة عدة أدوار منها ما هو اقتصادي وسيادي ودفاعي بحيث تتداخل صلاحيات الإدارات المكلفة بتنظيم الأنشطة الاقتصادية من صيد بحري، وتربية أحياء مائية، ونقل بحري، وخدمات فنية بحرية، واستخراج نفط أو غاز، وطاقة بحرية، وسياحة مع صلاحيات السلطات العمومية المكلفة بالرصد والرقابة، وحماية البيئة البحرية، والسلامة البحرية، والأمن والإنقاذ مما يتطلب أحيانا جهودا كبيرة لتنسيق الدور على أكمل وجه قد تكون مكلفة لخزينة الدولة. لترشيد وتنسيق وتفعيل ذلك الدور ولتفادي هذه الوضعية أصبح من الضروري جمع وصهر تلك الإدارات والمؤسسات في وكالات شبه تجارية.

 

 لهذه الأسباب لجأت معظم حكومات الدول المطلة على البحر إلى رسم استراتيجيات شمولية تسعى إلى تجميع مختلف جهود الدولة من إدارات ومؤسسات عمومية ذات المهام البحرية لكي تستجيب لمتطلبات ومسايرة ومتابعة نظم ومعايير الاعتمادات والتراخيص الممنوحة للشركات المهنية العاملة في مختلف انشطة الاقتصاد البحري. ولكي كذلك تتمكن من تسيير موانئها، وأساطيلها، وجميع الأنشطة الاقتصادية المزاولة في مياهها الإقليمية والدولية بشكل متناسق وفعال يضمن مردودية أكبر على الاقتصاد الوطني وديمومة أكثر.

 

في هذا السياق، فإن موريتانيا، شأنها في ذلك شأن جميع البلدان البحرية، ملزمة بالامتثال وواجب عليها رفع أداء إدارتها على أعلى المستويات من أجل مواجهة التحديات الرئيسية التي تفرضها إدارة وتسيير منطقتها الاقتصادية الخالصة، وشواطئها، وسفنها، وموانئها، وغير ذلك من الأنشطة المتصلة بالبحر للعب دورها كما ينبغي.

 

بيد أن موريتانيا لم تحذوا حذو تلك الدول وركزت في مجمل استراتيجياتها البحرية على تنمية نشاط الصيد البحري وحده مهملة بذلك تلك النظرة الشمولية التي نتجت عن العولمة الاقتصادية البحرية والتي اعتمدت من طرف معظم خبراء البحر كضامن أساسي لتطوير متزامن لتلك العناصر الأربعة اللازمة لمزاولة أي نشاط اقتصادي في هذا الوسط.

 

فأصبحت كل تلك الاستراتيجيات النظرية التي بنيت على حلول جزئية تمويهية ومؤقتة تخدم فقط المصالح الشخصية واللوبية للأنظمة المتعاقبة منذ 40 سنة معاقة كأنها مشلولة لم تستطيع تحقيق الأهداف التنموية المنشودة منها ولا الاندماج الفعلي في نسيج الاقتصاد الوطني ولم تتمكن موريتانيا من مقاربة الوصول إلى الريع الاقتصادي والاجتماعي الذي تحصل عليه جيراننا من الشمال والجنوب من ثرواتهم البحرية.

 

فكانت النتيجة كما تعلمون هزيلة في قطاع الصيد البحري وعديمة في قطاع النقل والخدمات البحرية رغم أن الثروة السمكية والمعدنية والغازية الهائلة ومستوى حجم التبادل التجاري المرتفع يؤهل بلادنا إلى احتلال مكانة أرفع على مقياس مؤشر النمو الاقتصادي للبلدان السائرة في هذا الطريق والوصول إلى مصاف الدول التي شهدت نهضة اقتصادية بحرية قفزت باقتصادها الوطني إلى وضعية مريحة تضمن لها الاستقرار.

 

صحيح أن النظام ورث وضعية صعبة لقطاع الصيد والاقتصاد البحري تجلت في فوضوية عارمة ومزمنة في مجمل مستوياته التسييرية وفي جميع أقسامه التقليدية والشاطئية والصناعية وفي ندرة المخزون إلا أنه رب ضارة نافعة. فهذه الوضعية التي بلغ الإنذار فيها أوجها لن تجدي فيها سياسة ذر الرماد في العيون ولا الحلول الجزئية ولا التغطية على الفساد والرشوة وسوء التسيير بل تتطلب حتما إعادة تأسيس متأنية مبنية على أسس صحيحة وصريحة في نظرة شمولية لتنمية مستديمة فعالة ومنسقة لكافة الانشطة الاقتصادية البحرية المزاولة في هذا الوسط الموحش.

 

هذه النظرة الشمولية ستسمح مما لا شك فيه بفتح فرص استثمارية جديدة للفاعلين الخصوصيين الوطنيين تعتبر مصدرا للثروة ورافدا أساسيا للعمالة في مختلف الأنشطة الاقتصادية التي تجري في البحر أو بالقرب من البحر. كما ستؤدي كذلك إلى استعادة جزء كبير كان مفقودا من مداخل خزائن الدولة، من خلال الإتاوات والضرائب على الخدمات المهنية المقدمة للمشغلين، والشركات المهنية والسفن.

 

إلى جانب الاستفادة من الأثر الاجتماعي والاقتصادي الإيجابي على الاقتصاد الوطني بصورة عامة تشكل هذه النظرة ضمانا يشجع المنظمات المانحة ويدفع كبريات الشركات المهنية المستغلة للثروات البحرية على الاستثمار في البلد لأن ظروف مزاولة أنشطتها أصبحت أكثر ملائمة مع النظم والمعايير البحرية الدولية المطلوبة.