على مدار الساعة

"حجَرُ الأرض...": لذّةُ الحِكايَة

14 مارس, 2022 - 13:48
محمد الشيخ عبدي

بلُغةٍ سلسةٍ عذبةٍ يطلّ علينا الصّديق بل الأستاذ أحمد فال ولد الدّين من خلال كتابه الذي صدر حديثا: "حجرُ الأرض: صراع الغُزاة والحماة في أفغانستان". وككل كتابات الرّوائي المبدع يأخذك أحمد فال إلى عوالم الأدب والتاريخ والاجتماع والسياسة، بأسلوب شيّق، يجمع بين أناقة اللغة، وجمالية السّرد ، وروعة الأسلوب.

 

الكتاب صدر عن مركز الجزيرة للدراسات، ويقع في 179 صفحة موزّعة على مقدمة وجيزة ومدخل وثلاثة فصول وخاتمة، إضافة إلى قائمة مراجع ومصادر باللغات الثلاث: العربية والإنكليزية والفرنسية.

 

استهل الكاتب مقدمته الوجيزة بتبيان الحقائق التي دعته لكتابة هذا الكتاب، ثم عرّج على العنوان "حَجَرُ الأرْض" المستلهم من عبارة تراثية لزعيم الدولة العباسية يصف بها القائد العسكري أبا مسلم الخراساني، وما تعنيه هذه العبارة من "ثبات الجَنان، وصلابة الوجدان، والتشبّث بالمكان".

 

من كانساس إلى كابل:

هذا هو العنوان الذي عنون به الكاتبُ مدخلَ كتابه. إنها بداية الرّحلة، اللحظات الأولى في مطار كابُل. من هنا يبدأ الكاتبُ الصحفي المُوفَد من قناة الجزيرة لتغطية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان سرْدَ رحلته، واصفاً بحرفه الأنيق حالةَ الارتباك داخل المطار وخارجَه، هلعَ الجنود الأمريكان وهم يشاهدون نهايتهم الذليلة بعد 20 عاما من الغزو والقتل والتدمير، الجنديَّ الأمريكيَّ الغازي جنبا إلى جنب مع الأفغاني المُقاوم. حالةٌ نفسية عجيبة ومشاعر مختلطة، حدثٌ عظيم تنتظره أفغانستان = مقبرة الإمبراطوريات!

 

وأمام حدثٍ تاريخيٍّ كهذا، يتطلب الأمر شيئاً غير تغطية صحفية جافَّة يقتُل فيها الخبرُ الخبرَ، أو إطلالة مضغوطة على الشاشة لمدّة دقائق! ذلك أن الوقائع الجِسام والتحولات التاريخية الكبرى تتطَلّبُ الكتابة عنها كثيرا من التأمل في بداياتها وسيرورتها ومآلاتها.

 

يُحاول الإعلامي ولد الدين في عمله هذا وفي أعمال سابقة أخرى، أن لا يكون "مثل كثيرين من الصحفيين الذين يعميهم الخبر اليومي المنبتّ عن جذوره التاريخية وشروطه الحضارية"، على العكس من ذلك يحاول ولد الدّين الغوص في الجذور التاريخية والاجتماعية للحدث، قاصّا ومستفهما ومستنتِجا..، كلّ ذلك بعقل المؤرّخ وحذاقة الكاتب ومهنية الصحفي.

 

يُواصل الكاتب سرد ملاحظاته حول أيام كابُل ولياليها بعد دخول طالبان للعاصمة الأفغانية، ولملمة المحتل لأوراقه وهو يستعدّ للانسحاب، والظروف الأمنية المتوترة، وترقّب الأفغان لغدٍ لا يوجد فيه جندي أمريكي واحد على أرض أفغانستان بعد عقدين من مناجزة المحتل الأمريكي ومنابذته في جبال أفغانستان الصلبة صلابة قلوب شُبَّان طالبان.

 

وأنت تتابع هذا السرد الملحمي الرائع، ينقلك الكاتب من أجواء كابل ودهشة أهلها إلى هدوء مدينة كانساس سيتي في الغرب الأمريكي، حيثُ محلّ إقامة الكاتب إبّان أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هنا زاوية من زوايا الصورة لا يريد ولد الدين بحسّه الأدبي أن يفوّتها: أمريكا واجمةٌ حيرى من ما حدث، المزاج النفسي للأمريكان في غاية السوء، مكتب التحقيقات الأمريكي (أف، بي، آي) يدُسُّ أنفه في كل شقة وشارع ومبنى. القوّة العظمى جُرحت في كبريائها، لذلك فهي تبحث في كل شيء وعن كل شيء، وأن تكون عربيا مسلما ـ وقتها ـ هذا يعني أنك متّهم بالدّرجة الأولى! إنها فعلا حالةٌ من "الجنون الجماعي" كما ذكر المؤلّف.

 

الأفغان زمانا ومكانا:

ثُم بعد هذا المدخل يلج بنا الكاتب إلى فصول الكتاب الثلاثة، ليبدأ في الفصل الأول المعنون بـــ: الأفغان زمانا ومكانا بالحديث عن تاريخ أفغانستان وموقعها الجغرافي، وعن محاولات الغزو التي تعرضت لها بلاد خراسان، "بدءا بالإسكندر الأكبر (ت 323 ق.م)، مرورا بجكيز خان (ت 624 هــ / 1227 م)، وانتهاء بجورج بوش الابن".

يقدّم الكاتب رصدا تاريخيا موجزا لطبيعة هذه الحملات الغازية، وكيف باءت كلها بالفشل، ثُم يلخّص المؤلف قصة أفغانستان مع الغزاة في بُعدين: "أولهما مكانتها الاستراتيجية باعتبارها ممرّا بين صُنّاع الحضارات القديمة من هنود في الجنوب، وصينيين في الشرق، وفرس وعرب في الغرب. وثانيهما بيئتُها الجغرافية والعرقية التي تجعل البقاء فيها أمرا في غاية الصعوبة".

 

ثم يعرّج المؤلّف على علاقة بلاد خراسان الخاصة بالإسلام، وكيف أن جيش الفتوحات الإسلامية وحده هو الذي دخل أفغانستان (عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ت 35 هــ/ 679م) ولم يخرج منها إلى يوم النّاس هذا، فقد لامس الإسلام شغاف قلوب الأفغان وتمسّكوا به، "ولعل الطبيعة الديمغرافية المتشاكسة كانت العامل المساعدَ لثبات الإسلام وتشبّث الأفغان به".

 

وفي ختام هذا الفصل يزوّدنا الكاتب بنصوص تراثية ذات قيمة عليا في وصف بلاد خراسان وأهلها: كيف رأى العلماء والأقدمون بلاد خراسان؟ وما ذا دوّنوا عنها؟ وأيّ انطباع تركته مدنٌ كَـ مَرو وهَراة وبلخ وقندهار، في نفوس هؤلاء الكَتَبَة حتى تركوا العنان لأقلامهم تتحدث بالعجب العجاب عن إنسان هذه الأرض الذي لا يهزم!

 

أما الفصل الثاني من الكتاب فقد أخذ عنوان: انبثاق حركة وميلاد زعيم، وفيه تحدث الكاتب عن جذور وبدايات تأسيس حركة طالبان، هذه الحركة التي ستصبح فيما بعدُ كابوسا يؤرّق أقوى إمبراطورية في عالم اليوم! ، لتبدأ الحكاية من غضْبةِ معلّم أطفال في قندهار يُدعى المُلّا عمر بسبب غياب الأمن وشيوع أخبار تتحدث عن اختطاف ميلشيات للفتيات الأفغانيات واغتصابهن.

 

يرصُد الكاتب البدايات الأولى لهذه الحركة، وكيف أنها لم تكن سوى استجابة أمنية لواقع أمنيّ منفلت، ولعلّ من المفارقات أن يكون الحظ الكبير من انتقادات خصوم طالبان يدور جيئةً وذهاباً حول المرأة، وطالبانُ في غضبتها الأولى كانت من أجل حقوق المرأة والدّفاع عن شرفها!

 

وبعد مرحلة التأسيس، يتحدث المؤلف بإسهاب عن الرجل الصلب المؤسس محمد المُلاَّ عمر رحمه الله، منطلقاً من بداية ظهوره العلني للأفغان، وعن إدارته للحركة، وظروف اختفائه بعد سقوط طالبان، وهو اختفاء لم يمنع الملّا عمر - رحمه الله - من إدارة كفة الجهاد من القرى والأرياف، ومواصلة الكفاح المسلّح من داخل تراب بلده، رافضا أن يخرج من بلدِه وبلدُه تحت اللهيب، لقد كان الرّجُل جحيما على الولايات المتحدة ودول الناتو. رصدت الولايات المتحدة الأمريكية حينها مبلغ 10 ملايين دولار لمن يعثُر على المُلّا محمد عمر..!

 

العمائم المظفّرة: عودة طالبان:

تحت هذا العنوان من الفصل الثالث والأخير، اختار ولد الدّين أن يتحدّث عن العودة الجديدة لطالبان، وسيطرتها ثانيةً على كابُل بعد عقدين من الزمن وُلدت فيهما أجيال وماتت أجيال، عادت طالبان والأفغان والعالم من ورائهم يسأل: هل هذه طالبان التي نعرف؟ طالبان التي تقتل مخالفيها وتسحلهم في الشوارع؟ طالبان التي ترفض تمدرس الفتيات أم طالبان أخرى؟ علاماتُ استفهامٍ كثيرةٍ تتناسل، والكُلّ يبحث عن جواب يطمئن محبّي طالبان والمشفقين عليها قبل خصومها.

 

وفي سبيل هذا المسعى، يحاول أحمد فال من خلال هذا الفصل تقديم إجابات ومقابلات صحفية ومقارنات تاريخية بين سلوك طالبان قبل 1996، وسلوك طالبان 2021، ويخرج الكاتب بأن شيئا ما طرأ على أسلوب الحركة، سياسيا وثقافيا وأمنيا.

 

يختم الكاتب هذا الفصل بالحديث عن "اللُّحَى العنيدَة" ومسار التفاوض العسير الذي بدأته الحركة قبل سنوات مع الأمريكيين، والذي كان من ثماره الاتفاق على إخراج القوات الأمريكية من أفغانستان، الاتفاق الذي كتبت عنه "الواشنطن بوست": (طالبان هزمت الأمريكيين في المفاوضات كما هزمتهم في ساحة الوغى).

 

وكمثال على صلابة الوفد الطَّالباني في المفاوضات التي جرت في الدّوحة، يسرُد الكاتب مشهدا من مشاهد عزّة المؤمن، يقول نائب رئيس المكتب السياسي للحركة شير محمد عباس ستانكزاي: (كنا مرّةً نتفاوض فضغطوا علينا لنقبل جزئيات لا نريدها، وعندما ملُّوا من الضغط صرخ المسؤول الأمريكي: إذا كنتم تريدون من قواتنا أن تخرُج فعليكم بالقَبول، وإلا فنحن باقون عشرين عاما أخرى. غضبتُ وضربتُ الطاولة وصرختُ: عشرون عاما فقط؟ ابقوا 100 عام أخرى وستقضونها والنّار تحت أرجُلكم)!

 

هكذا ينهي الكاتب رحلةً قصصيةً ممتعةً، بلغة أصيلةٍ صقيلةٍ وخيال أدبي رفيع، وعلى ذكر اللغة الأصيلة الصّقيلة نختم هذه القراءة السّريعة بطُرفة وقعت للمراسل أحمد فال مع زميله المصور السوداني أشرف عثمان: ليلةَ الانسحاب كانت لدى أحمد فال إطلالةٌ مباشرةٌ على قناة الجزيرة، وقد وردت على لسانه في وصف ليلة الانسحاب التاريخي عبارة: (هذه ليلةٌ ليْلاءْ)! ما إن انتهى أحمد فال من المباشر حتى وجد المصوّر أشرف غارقاً في الضحك: ما معنى هذا الوصف: لَيْلَاءْ؟ أوضح أحمد فال لزميله أصالة العبارة، وأن العرب تصف الليلة التي يقع فيها حدث خطر بأنها ليلة ليْلاءْ، كما تصف اليوم الذي تقع فيه أحداثٌ جسامٌ بأنّه يومٌ أَيْوَم! ضحك المصوّر: يوْمٌ أيْوَم؟ لا! خلّينا في ليلة ليلاء..!