على مدار الساعة

الراحل د. محمد المختار بن اباه.. شبه بالصحابة وبلاء حسن في خدمة القرآن

27 يناير, 2023 - 23:47
محمد عبد الله بَيدَّ - طالب بمرحلة الماستر الدراسات القرآنية

الصحابة ماج فالرد *** عن حد امعاهم يتغاب

كون انتاب لمربط بعد *** كال انهم كيف الصحابة

 

خلال تقديميه للراحل د. محمد المختار بن اباه في أمسية من أماسي "الإثنينية" المشهودة شبه الشيخ عبد الله بن بيه فقيد الأمة اليوم بالصحابي الجليل زيد بن ثابت كاتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، وجامع المصحف للخليفتين الراشدين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.

 

ولم يرسل الشيخ ابن بيه الشبه هنا، ولا ترك الكلام على عواهنه تقعد به المبالغة عن القبول، أو تنزل به المجاملة إلى اللغو والفضول، بل أبان عن وجه الشبه وعلاقة التشبيه، والتي يلخصها في نقطتين تتمثل الأولى منهما فيما بذل الدكتور من جهد في خدمة القرآن، وقد مثل له بعمله في الترجمة اليقظة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية.

 

وتتجلى الثانية في الموهبة اللغوية التي هيأت للدكتور معرفة اللغة العبرية التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت - رضي الله عنه – أن يتعلمها فأتقنها في بضعة عشر يوما.

 

ورغم فوت مقام الصحابة على اللحوق فإن في سعة فضل الله مع ما تستلزمه إمامية ذلك الجيل القرآني من طلب الاقتداء ومرغوبية التشبه ما يدفع امتناع مشاركة أخيار هذه الأمة لبعضهم في معاني من صفاتهم، ومآثر من مناقبهم، كما تنطق بذلك كلمات ابن بيه في الشهادة لهذا العلم الشامخ، وتنطق به آثار الراحل نفسها قبل ذلك وأعماله.

 

والحديث عن آثار الفقيد وهو الرجل الأمة، والكلام في جوانب حياته وهو الباحث الطُّلَعة ليس من طبيعته التأتي للأفراد على وجه  يحاول الاستيعاب أو يقاربه، وإنما حقه الأعمال الجماعية والأبحاث المتخصصة؛ ففي كل تخصص من علوم الإسلام كان للدكتور حضور ومشاركة تلفت الانتباه، وأعمال وآثار تستدعي البحث وتستوقف الباحثين، فهو المؤلف الذي نيفت تآليفه على الثلاثين تأليفا، توزعت بين علوم القرآن والحديث واللغة والأدب والأصول والفقه والسيرة والفكر، واشتركت فيها اللغتان العربية والفرنسية، وتعاقبت عليها طرائق التأليف عند الأقدمين، ومناهج البحث الأكاديمي المعاصر، على نحو من الشمول غير معهود عند المعاصرين بذلك المستوى من الضلاعة في فروع علوم الإسلام، بله الجمعَ بين ذلك وبين الثقافة والفكر الغربيين، فلقد صدق على فقيدنا بحق ما نعى به الإمام القرضاوي الشيخ عبدالله دراز- رحم الله الجميع - حين لخص حالته النادرة ، فعرفه بأنه "ابن الأزهر والسربون" وليس بمبالغ ولا متزيد من يُّعرف الشيخ الراحل محمد المختار بن اباه بأنه "ابن المحظرة والسربون" بما ترمز له المؤسستان من دلالة حضارية مكثفة، تستدعي فيما تستدعي متانة التمكن في الثقافة الإسلامية، وسعة الاطلاع على المنتج الغربي في المناهج والأفكار.

 

وإذا كنا أمام هذه الظاهرة الموسوعية عاجزين عن الغوص في أغوارها، والوقوف على مختلف أبعادها فإنا في الاقتصار على أحد جوانبها غير آمنين من الإخلال والقصور، غير أنا نشير هنا إلى مجال من المجالات التي حظيت بالاهتمام الكبير من لدن الشيخ الفقيد، وعلا به شرف خدمتها إلى مقام التشبيه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعني بذلك مجال علوم القرآن.

 

فقد ترك فيه الشيخ أعمالا جليلة، تعكس بتنوعها وتوزعها خلفيته الموسوعية ذات البعدين من الأصالة والمعاصرة، فقد كتب د. - تلقاه الله برحمته - في القراآت وفق المنهج العتيق شرحا لمتونها العلمية التقليدية المعتمدة؛ فشرح "حرز الأماني ووجه التهاني" في القراآت السبع المعروفة بالشاطبية، للإمام قاسم بن فيره الشاطبي، وشرح الأرجوزة ذائعة الصيت والمعتمدة وحدها في البلاد المغاربية كلها "الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع"، وعقد نظما في الفرق بين روايتي ورش عن نافع وحفص عن عاصم وغير ذلك...

 

ثم لم يفوِّت أن يخدم هذا العلم وفق المناهج المعاصرة فكتب عن "تاريخ القراءات في المشرق والمغرب" الكتاب الذي يعد في طليعة الدراسات المعاصرة في بابه كما كتب عنه وأشاد به المتخصصون واقترحوه في المقررات الجامعية في مجاله، لما يمتاز به من سداد ووضوح في المنهج، وتعمق وأناة في البحث، كما يقول عنه الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري.

 

وكتب عن تاريخ القرآن للمستشرق الألماني نولدكه، ثم توج خدمة القرآن بترجمة معانيه إلى اللغة الفرنسية وهو العمل الذي أخذ منه وقتا وجهدا، قد تحدث عن ملابسات هذا العمل ومراحله التي مر بها في مذكراته الممتعة الحافلة.

 

إلى أعمال أخرى لا يستوفي المقام حقها من الحديث، وقد كنت السنة الماضية حين أردت تسجيل موضوع لرسالة التخرج في الماستر قدمت مقترحات بحث كان من بينها دراسة جهود هذا الشيخ في علوم القرآن، ولكم لم أحظ بالموافقة عليه حينها

 وعسى في قابل الأيام أن تلقى هذه الأعمال من الدرس والقراءة ما يفي بتجليتها، واكتشاف قيمتها، ويوفي صاحبها حقه من الإجلال والوفاء المستحقين.

 

جزاه الله خيرا الجزاء، وتقبل منه صالح الأعمال، وعوض فيه المسلمين خيرا.

 

 وصلى الله وسلم على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه