على مدار الساعة

مرجعية الحكمة في التناوب

25 مايو, 2023 - 13:59
د. عبد الصمد ولد امبارك

ولدت التجربة الديمقراطية الموريتانية ونشأت في خضم ظروف صعبة، جعلتها حصيلة مواجهة لجملة من التحديات المتعددة والمتنوعة، منها ما هو تحدي سياسي متمثل في أزمة الحكم حيث تكررت الانقلابات العسكرية ومحاولات تغيير النظام بالقوة، مما أثر على الاستقرار وحال دون التناوب السلمي على السلطة، ومنها ما هو تحد أمني عندما عرفت موريتانيا أزمة حادة مع جارتها الجنوبية أوشكت تداعياتها أن تجر البلاد إلى حرب سنة 1990 م، إضافة للأحداث الأليمة التي تلت محاولة الضباط الزنوج قلب نظام الحكم سنة 1990 م، كما يبرز بجلى التحدي الاجتماعي المتمثل في الحضور القوي للقبلية في شؤون الدولة، كما يذكر التحدي الخارجي المتمثل في الأطماع الغربية الفرنسية عبر محاولات التأثير المستمر على السلطة في موريتانيا، زيادة على التحدي الاقتصادي الذي يتجلى في نقص الموارد المالية، مع تدني الانفاق العمومي على المؤسسات السياسية الرسمية وغير الرسمية، في مواجهة التحدي الفكري والثقافي الذي يعكسه بجلاء غياب الثقافة الديمقراطية وانعدام تقاليد المشاركة السياسية وانخفاض مستوى الطلب على النظام الديمقراطي التعددي.

 

هذه التحديات مجتمعة واجهت التجربة الديمقراطية الموريتانية وجعلت مسارها يتذبذب صعودا وهبوطا، لكنها تميزت بالقدرة الكبيرة في الصمود والاستمرار، رغم ما حصل من انقطاع في هذه التجربة سنوات 2003 و2005 و2008، إلا أن المسلسل الديمقراطي استأنف سيره من جديد وهو دليل قاطع على قابلية التجربة الديمقراطية الموريتانية للنمو والتطور باستمرار في ظل جملة متغيرات بالغة الأهمية من تاريخ حركية الشعوب ضمن سياق المنتظم الإقليمي والدولي.

 

حلقة الانتخابات المفصلية الأخيرة تشكل في جوهرها إطارا مواتيا للتنافس بين مختلف التشكيلات السياسية في البلد على أساس برامج متنوعة، مستوحاة في مجملها من اهتمامات وانشغالات المواطن باعتباره الغاية والوسيلة. الأمر الذي حدا بحزب الإنصاف إلى الانحياز لقضايا الوطن و المواطن، عبر برنامج انتخابي واقعي وموضوعي مستوحى في معظمه من برنامج تعهداتي الذي سبق و أن حاز ثقة الشعب الموريتاني في انتخابات رئاسية تعددية شفافة ونزيهة سنة 2019 م، تأكدت اليوم حلقاته بالتأييد من الشعب الموريتاني خلال انتخابات 13 مايو الجاري، عبر انتخاب 80 نائبا من حزب الإنصاف في الجولة الأولى في جميع أنحاء البلاد وكذلك جميع رؤساء المجالس الجهوية وما يقارب من ثلثي رؤساء المجالس البلدية، في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار للانتخابات الرئاسية، مما يبشر بالخير لمعسكر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، على بعد سنة من المأمورية الثانية.

 

هذا السياق المتجانس يعتبر رصيد لكافة القوى السياسية في البلد ضمن حدود الدولة المدنية الحديثة باعتبارها عصارة للفكر السياسي و الاجتماعي الحديث ذي المرجعية القومية الناضجة، الضامنة للولاء في تجانس وتناغم تكاملي وشمولي لتحقيق الصالح العام المشترك لدولة المواطنة، الحاضنة للجميع في كنف النظام المؤسساتي الديمقراطي بالتداول السلمي للسلطة، بقوة ملكية الإرادة الشعبية الحرة النابعة أساسا من القناعة بالموروث الوطني، بعيدا عن الحسابات الضيقة وما تمليه من مواقف شاذة وخارجة على القيم المتحضرة المستوحاة من التقاليد والمسلكيات الديمقراطية.

 

على الجميع أن يدرك بالحكمة و الحنكة السياسية أن لغة الكراهية وعبارات التحريض وإثارة النعرات، حتى التهديد بالسلاح والتلويح بإثارة الفتن والمساس بالسلم الأهلي، مع المطالبة بتغيير نتائج الانتخابات بالعنف والعنف السياسي، هي أمور غريبة على مجتمعنا وحاضنته الدينية المعروفة بالتسامح والألفة بين كافة مكونات شعبنا المسالم، ضمن ردود الفعل المتناقضة لأحزاب المعارضة التقليدية، بعد السقوط الحر الناجم عن التخلي عن قضايا الوطن والمواطن وما نجم عنه من تخلي الشعب عن المعارضة وانحيازه لصالح النظام القائم، باعتباره الملاذ الآمن لتطلعات الجماهير والحصن المنيع لتحقيق مصالح الفئات المحرومة والمهمشة والمغبونة على مر عقود من الظلم و الظلامية.

 

لقد آن الأوان للنهوض جميعا من مستنقعات الحقد والكراهية لنسمو أمام القيم الحضارية في التمدن والعصرنة التي تضمن العيش الكريم في كنف السكينة والوقار مع الأمن والاستقرار، السبيل الوحيد للتقدم والازدهار والرفاه المشترك.