في السنة الثانية من الجامعة أعددت لأستاذي المجيد الدكتور الهاشمي ملخصا عن كتاب المقدمة لعلامة الشرق والغرب ابن خلدون، أعجب الأستاذ بعرضي وبين أهمية هذا الكتاب، وقال لي ولزملائي إن كتاب المقدمة يعد رابع ثلاثة كتب قد تزيد في العقل وتورث الحكمة والمعرفة، وعدد لنا الكتب الأربعة، وكنتُ أتوقع أن يكون من بينها كتاب موافقات الشاطبي إلا أن أستاذي لم يذكره فاستدركت قائلا: ألا يمكن أن يضاف إلى هذه الكتب القيمة كتاب الموافقات للشاطبي..
فقال: "أحسنت ولكني أرى أن كتاب الموافقات صعب على غير المتخصصين.."
منذ ذلك الحين وأنا مدمن لقراءة تلك الكتب التي ذكر أستاذي المبجل وخاصة كتاب المقدمة لابن خلدون..
وما كنت أظن أن لابن خلدون شبيها في الفكر والكتابة إلى أن تعلمت اللغة التركية واطلعت على بعض الكتب التركية وتعرفت على بعض المفكرين الأتراك والتقيت ببعضهم فوجدت أن ثمة بعض الشبه العجيب بين علامة الشرق والغرب ابن خلدون ومفكر تركيا وأديبها والناطق السابق باسم الرئاسة التركية ورئيس جهاز المخابرات الحالي الدكتور البروفيسور ابراهيم قالن…
قرأت للرجلين كثيرا والتقيت بالأخير منهما وقد لاحظت أن من أوجه التشابه بينهما الموسوعية والاهتمام بالتاريخ الاجتماعي؛ حيث اشتهر كل من المفكرين بتعدد المعارف ودراسة المجتمعات وتاريخها والتأمل في آثارها وثقافاتها؛ فكتب ابن خلدون في الاجتماع والتاريخ كتابه العبر ومقدمته الشهيرة، وكتب الدكتور البروفيسور إبراهيم قالن كتابه "مقدمة إلى تاريخنا والآخر وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب".. "بربري، عصري، متحضر".. ملاحظات حول الحضارة" فَلَو أن أستاذي الهاشمي قرأ للدكتور إبراهيم قالن لجعل بعض كتبه من ضمن الكتب التي ذكر لنا..
قدوة قالن في الموسيقى والفلسفة
تميز البورفسير إبراهيم قالن عن رجال السياسة والدولة والحكم بكثير من الخصال الفكرية والأكاديمية والسياسية، ولعل أكثر ما يميزه اتقانه للموسيقى وتعدد الثقافات ولعل قدوته في ذلك الأستاذ الفيلسوف الأكبر والمعلم الفذ الفارابي الذي لا يخفي إبراهيم قالن إعجابه به وبموسيقاه وطرفه ومواقفه؛ فكثيرا ما تسمعه يتحدث عن الفارابي وكتبه وقد تسمعه يحكي بإعجاب قصة الفارابي مع سيف الدولة المشهورة - والتي كنتُ مدمنا على قراءتها في صغري يوم كانت من ضمن النصوص العربية المقررة علينا أيام الإعدادية يوم كان التعليم عربيا في موريتانيا - وهي قصة تدل على براعة الفيلسوف الفارابي في تعدد اللغات وقوة الحجة ومعرفة الغناء والموسيقى والتبحر فيها بحيث يُبكي ويُضحك جلساءه بها..
وهذه خصال تشارك فيها إبراهيم قالن مع الفارابي فهو خطيب مفوه ومؤلف متقن ومغن حسن الصوت عذب العزف لديه عدة مقطوعات غنائية تركية جميلة.
وبتعيين إبراهيم قالن هذه الأيام رئيسا لجهاز الاستخبارات التركي يكون قالن قد صار سيد الوزراء على حد تعبير السطان طغرل بك السلجوقي الذي كان يلقب من يتلوى هذا المنصب بسيد الوزراء.
توقع أكثر المتابعين للشأن التركي أن يكون البروفسور إبراهيم قالن وزيرا للخارجية نظرًا لنجاحاته في كثير من الملفات الخارجية خاصة في العلاقات التركية الأميركية والروسية والتي خاض أنجح المفاوضات فيها، كما أن له جهدا بارزا في التفاهمات المنعقدة مع السويد وفنلندا، لكن الرئيس أردوغان قد فاجأ الكثيرين بتعينه رئيسا لجهاز الاستخبارات والحق أن هذه الخطوة وإن كانت مفاجئة للبعض إلا أنها خطوة مدروسة وموفقة إلى حد كبير ذلك أن الرجل يمتلك تاريخا أكاديميا وفكريا ناصعا وسمعة حسنة قد يحتاجها هذا الجهاز، وهي خطوة أيضا تعود بنا إلى أيام مجد الأمة الإسلامية يوم كان لا يتولى هذا المنصب إلا العلماء والأدباء الأذكياء ومن العلماء والأدباء المشاهير الذين شغلوا هذا المنصب الأديب المجيد الحريري (ت 516 هـ / 1122 م) صاحب "مقامات الحريري"؛ فقد قال الأصبهاني: "ولم يزل الحريري صاحبَ الخبر بالبصرة في ديوان الخليفة"، وصاحب الخبر هو رئيس جهاز المخابرات بمصطلح اليوم.
تحتاج الدول ومناصبها السامية إلى سياسيين محنكين وفلاسفة متأملين وأدباء أريبين واجتماعين واعين لتاريخهم وواقعهم وأكاديميين متفننين، وأحسب أن الدارس لشخصية البروفسير إبراهيم قالن قد يجد أنه قد جمع بين شخصية المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون والفيلسوف الموسيقي الفارابي والأديب الأريب وقائد جهاز المخابرات الحريري، وهي لعمري شخصيات فاضلة لو وجد أمثالها في الدول لتحققت نظرية الفارابي الحالمة في مدينته الفاضلة.