على مدار الساعة

يسقط قانون النوع.. ولا كرامة!

24 سبتمبر, 2023 - 13:14
باب أحمد محمد القصري

منذ مؤتمر بكين والحكومات الوظيفية في العالم الإسلامي تعمل على التمكين لقانون النوع بالتدرج، وتقدم تقارير دورية عن الخطوات والإجراءات المتخذة في هذا الصدد، ولم تكن حكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية استثناء، إذ يعترف قطاع الشؤون الاجتماعية والمرأة بجهوده في هذا الصدد منذ 2004، فقد جاء في تقريره الجريء: (تقويم تنفيذ موريتانيا لتوصيات برنامج عمل بيجين) ما نصه: (يمثل فريق متابعة النوع تجربة هامة في مجال دمج وتحليل مقاربة النوع، ذلك أن الأمر يتعلق بفريق متعدد القطاعات أنشئ ضمن كتابة الدولة لشؤون المرأة، وتم تكليفه بإعداد خطة لدمج مفهوم النوع في السياسات والاستراتيجيات القطاعية للبلاد، والقيام بمناصرة لدى أصحاب القرار في هذا الشأن، وكذا لدى الشركاء في مجال التنمية والمجتمع المدني، بغية تبني مقاربة النوع، ومراعاتها في البرامج الإنمائية؛ وتكوين قاعدة بيانات حول النوع، والسهر على تجنيد الموارد اللازمة لذلك، ويتشكل فريق متابعة النوع من ممثلي النقاط البؤرية في مختلف الدوائر (مختلف القطاعات الوزارية، المجتمع المدني، والشركاء في مجال التنمية، الخ)، ويجتمع الفريق بانتظام كل ثلاثة أشهر، كما يستطيع أن يجتمع كلما دعت الضرورة إلى ذلك، بغية دراسة مدى تقدم دمج النوع في كافة السياسات القطاعية للدولة).

 

ثم جاءت مرحلة الإصرار على التقنين كخطوة متقدمة يدفعنا باتجاهها "الشركاء الغربيون"، ورغم الإخفاقات المتكررة فإن دعاة النوع لم ييأسوا ولم يخلدوا إلى الراحة والدعة، بل إن المحاولة الجديدة لنفخ الروح في القانون تبدو كما لو أنها أمر استثنائي، تتداعى له الهيئات الرسمية وتلقي بكل ثقلها لتمريره على رغم أنف الشعب ممثلا في نوابه وفاعليه، مما يضع الرافضين لتمرير القانون أمام تحديات أكبر من ذي قبل، ويبقى إسقاط هذا المشروع محاولة أخيرة لحفظ كيان الأسرة وبنية المجتمع من مخاطر السيولة الجندرية.

 

إن السؤال المُلِح الآن: هل يوجد في موريتانيا عنف موجه ضد المرأة يصل حد الظاهرة، ويستدعي ترسانة قانونية أكثر مما تتيحه أحكام الأسرة، أليس مجتمعنا في الجملة متهما بسلبية الرجل وتمكن المرأة وقوة مركزها؟، أليس من الأولوية توجيه الجهود لقضايا ذات أولوية، كالتفكك الأسري وما يترتب عليه من تقصير في الحقوق المالية، تغض عنه المرأة الطرف جهلا بالحقوق أو استكانة لسلطة المجتمع، مما أدى إلى فوضى في الزواج والطلاق، أليس علاج هذا الخلل وغيره يسيرا إذا ما وضعنا مقاربات تنطلق من الواقع، وتجمع بين تعميق الوعي بالحقوق، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم.

 

إن الخلفية الفلسفية لمشروع القانون والسياقات المرتبطة به تكفي للرفض، ومع ذلك فقد قرأت النسخة المتداولة في الجولة الجديدة، وخرجت بالملاحظات التالية:

1. الاسم الجديد: "مشروع قانون يتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة والفتاة" بدل الاسم القديم: "مشروع قانون إطاري يتعلق بالعنف ضد النساء والفتيات"، مع أنه لا عبرة بالمسميات، فالقانون هو هو رغم التحسينات والتلطيفات، بل إن الإصدار الجديد أخطر وأكثر مخاتلة، وقد ضم مواد هي من صميم فلسفة النوع، وليست ذات اتصال مباشر بقضية العنف.

 

2. لم يخفف تصدير العنوان بكمة "قانون" وحصر هدفه في: "الوقاية من العنف ضد المرأة والفتاة، ووضع الإجراءات القانونية الكفيلة بحماية الضحايا" من طغيان فلسلفة النوع، وتضمين مقارباتها استراتيجيا وتربويا (المادة: 9).

 

3. سوت ديباجة القانون بين مرجعيتي (الإيمان بقيم الإسلام ومقاصده) و (استلهام المبادئ الدستورية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة)، دون تحفظ على أي من هذه الاتفاقيات أو اشتراط لعدم منافاتها للشرع، مع خلو الديباجة تماما من ذكر للأحكام الشرعية (بين القيم والمقاصد من جهة والأحكام من جهة أخرى بون أي بون)، والأسوأ من كل هذا نسخ هذا القانون لكل الأحكام السابقة المخالفة (المادة الأخيرة: 55).

 

4. تعريفات مخاتلة فضفاضة يمكن بها ابتزاز منظومة الأسرة وتفكيك بنائها الشرعي بيسر وسهولة (العنف المعنوي – التمييز بسبب الجنس – التهديد – الإكراه ... المادة: 2).

 

5. يمكن أن يكون هذا القانون أداة للتنكيل بأولياء الأمور وتشريعا للعقوق والابتزاز، فقد ضاعف العقوبة على الأولياء الشرعيين (المادة: 4)

 

6. جاءت أولى خطوات تفكيك مؤسسة الأسرة وضرب القوامة والولاية الشرعية في المادة (13)، إذ أضحى بمقدور كل امرأة أو فتاة أن تلوذ بشخص طبيعي أو معنوي تختاره، يقدم له المؤازرة (فضلا عن محاميها)!.

 

7. وفي نفس السياق قننت (المادة: 19) الملاذات البديلة عن الأسرة، كمراكز "الإيواء" لتكون وكرا للفتيات الهاربات من مؤسسة الأسرة، وقد فتحت بالفعل مجموعة من هذه البيوتات عن طريق منظمات غربية في السنوات الأخيرة، ورُصِد بعض السفهاء يغري الصغيرات باللجوء إليها رفضا لسلطان الأولياء الشرعيين.

 

8. وفوق كل ذلك وفر القانون دعما ماليا (مقدما من الدولة والشركاء) لمن يلجأن لهذه المرافق، وفي ذلك ما فيه من الإغواء والإغراء بمغادرة مؤسسة الأسرة بسبب وبدون سبب، خاصة مع طغيان الاعتبارات المادية (والكرية تجري الزحاف!).

 

9. في (المادة: 24) أعطيت "محاولة" الاغتصاب نفس حكم الاغتصاب، واعتبرت (المادة: 25) مجرد اللمس الجنسي المتكرر من المحارم محاولة للاغتصاب! (مجرد اتهام الأب مثلا من مراهقة هاربة بأنه لمسها بشهوة يكفي لإيقاع حكم الاغتصاب عليه!)، وهذا باب لفوضى كبيرة وفساد عريض في بناء الأسرة والمجتمع.

 

10. أبقى القانون على المادة المتعلقة بتجريم الخفاض، إذ جاءت تحت عنوان "تشويه العضو التناسلي للمرأة والفتاة" في (المادة: 27).

 

11. جرمت (المادة: 28) ما أسمته الاحتجاز والاختطاف!. وهو مصطلح فضفاض يكفي لانتقال الولاية للناشطين الحقوقيين، ومتلقي تمويلات المنظمات الغربية الراعية لدعوة الجندر.

 

12. وقريب منها (المادة: 29) عن: الضرب والجرح العمدي.

 

13. جرمت (المادة: 30) عدم الإبلاغ عن العنف ضد المرأة، وهي محاولة لتجنيد حتى الرافضين خدمة لثقافة الجندر.

 

14. جرمت (المادة: 33) الإكراه على الزواج، مما يعني اشتراط موافقة الفتاة دون اعتبار لما في الباب من تفصيل.

 

15. أبقى القانون على تجريم زواج القاصرات (المادة: 36) تحت عنوان "زواج الأطفال"، وزاد بتمكين القاضي من فسخ العقد (إذا تبين أنه في غير مصلحتها!)، وفي ذلك ما فيه من إزراء بمقام الوالدية.

 

16. أخطر ما في القانون جاء في (المادة:54) تحت عنوان "مؤسسات ورابطات حقوق الإنسان"، إذ منحها حق تمثيل الضحية ورفع القضايا كطرف مدني، وهو ما يعني أن استقرار الأسرة والوئام والانسجام في المجتمع أضحى بيد هذه المنظمات، وبعضها كما هو معلوم له أجنداته المشبوهة وارتباطاته الخارجية.

 

وقبل كل هذا وبعده غاب عن المشرع استحضار فلسفة المرحمة والمودة وإصلاح ذات البين، وأن العلاقات الأسرية والاجتماعية تقوم على الفضل والمسامحة، لا على العدل والمشاححة، لذا أوصانا ربنا جل وعز: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، ثم إن الدول التي سبقتنا في مجال التقنين، وحولت نظام الأسرة إلى مواد قانونية جامدة وعلاقات ميكانيكية تعيش شقاء وجحيما لا يطاق؛ بعد أن تفاقمت المشاكل واحتدم الصراع، الذي زرعته ثقافة النوع المعولمة.

 

وقد استوقفتني سلبية وضعف وعي الكثيرين حيال هذا الخطب الجلل، ومن ذلك قول بعض الطيبين إن قانون النوع وغيره لا يستحق كل هذا، لأننا بلاد اللا قانون.. فحتى لو أقر فلن يُفعَّل!. وهو كلام مردود لجملة اعتبارات:

1. إنما تهمل القوانين التي ليس وراءها مطالب..! ومن المعلوم أن قانون النوع ليس من هذا القبيل، لأنه إملاء وفرض تسنده الهيئات الدولية، ويعطي حق التمثيل والمتابعة للهيئات الحقوقية المحلية، لذا سيشكل للمجتمع صداعا مزعجا من أول يوم، حال إقراره لا قدر الله.

 

2. وحتى لو سلمنا جدلا بأنه لن يأخذ طريقه للتنفيذ اليوم فسيأخذه غدا.. وغد لناظره قريب، ولسنا بحمد الله من أهل قصر النظر.

 

3. ثم إن إقرار ما يخالف شرع الله عز وجل مناقض لإيمان المسلم ولا يجوز قبوله بحال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم..}