على مدار الساعة

ترك الدول الإسلامية للزكاة واستباحة أموال المحتاجين

13 مايو, 2024 - 12:01
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم - mohsiab@yahoo.fr

الزكاة هي واسطة عقد الدين باعتبارها الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة وهي واجبة على المسلمين بنص الكتاب والسنة حيث جاءت مقرونة بالصلاة في ثمانية وعشرين موضعا من القرآن الكريم ومما ورد فيها قوله تعالى: {وأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة وارْكَعوا مع الراكعِين} - الآية 43 من سورة البقرة، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - الآية 103 من سورة التوبة. وفي الحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (الحديث رقم 1313 في صحيح البخاري). ويعد إنكار وجوب الزكاة أو رفض أدائها خروجا عن الإسلام وتجيز الشريعة انتزاعها بالقوة من الممتنع عن أدائها. وكما كتب الدكتور عبد الفتاح محمد صلاح فإن الله عهد للأغنياء بتوصيل نسبة يسيرة من ماله، لا تعدو ربع العشر (2,5%)، للمحتاجين مقابل أجرة توصيل قدرها تسعة أعشار وثلاثة أرباع العشر (97,5%). ومراعاة لسرعة تغير الظروف وتبدل الأحوال، يجب على أغنياء المسلمين اغتنام التقاطع المحدود لفرصتي الغنى والحياة وإيتاء زكاة أموالهم قبل أن تؤول لغيرهم ويقفوا في قفص الاتهام للرد على سؤال الخالق: لم منعتها؟

 

وبدلا من إيتاء الزكاة، واعتمادها لنشر دين الله في زمن السلم والتعاون الدولي، تعطلت هذه الشعيرة بسبب اقتران الشح في نفوس الأغنياء بتخلف الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية لدى الفقهاء ونجم عن ذلك إعفاء أكبر أغنياء المسلمين من دفع زكاة أموالهم للمستحقين الذين تتزايد نسبتهم يوما بعد يوم وأصبحت الدول الإسلامية الغنية، ذات الأصول الوافرة، تكنز الأموال وتستثمرها لأجيالها القادمة دون أن تسدد النسبة اليسيرة المفروضة للمحتاجين ومن الدول من يقوم بتحصيل الصدقات من الدافعين ويضيفها لميزانياته كي تسهم في تحقيق أهداف الدولة ومشاريعها على حساب مصارف الزكاة الثمانية الذين ذكر الشارع على سبيل الحصر. وأتناول في هذا المقال زكاة المال العام وأستهله بفتوى عدم وجوب زكاته وما يعتريها من نقص (أولا) ثم أستعرض القول بوجوب زكاة المال العام الذي، على الرغم من صدوره في القرن الثاني الهجري، يبدو محققا لمقاصد الشريعة وملائما للعصر (ثانيا) وأناقش، بعد ذلك، ضرورة مراجعة فتاوى زكاة المال العام (ثالثا) وأهمية مسايرة الفقه للواقع ووجاهة تحيين مصارف الزكاة كي تساير العصر (رابعا) قبل أن أتناول كبار المدينين بفريضة الزكاة (خامسا) وأختم بتوصيات آمل أن تجد آذانا صاغية (سادسا).

 

أولا / فتوى عدم وجوب زكاة المال العام:

ترسخ حرمان المحتاجين من نصيبهم في المال العام بفتوى أصدرها بعض الفقهاء المتأخرين، عفا الله عنه، بعدم وجوب زكاته، وخلاصة الفتوى أنه : "لا تجب زكاة المال العام لأنه ليس له مالك معين ولا قدرة لأفراد الناس على التصرف فيه، ولا حيازة لهم عليه ولأن مصرفه منفعة عموم المسلمين" ومن البين أن هذه الفتوى غير مؤسسة وتنافي قواعد القانون المعتمدة المتعارف عليها اليوم كما أنه لا مراء في أن الأخذ بها يشكل خطرا على المصالح العامة فمن تبعات القول بأن المال العام لا مالك له أن يعرضه للضياع بجعله مالا سائبا لا يوجد من تتوفر فيه الصفة للمحافظة عليه والذب عنه وتمثيله والدفاع عنه أمام القضاء، عند لزوم ذلك. أما عدم قدرة الأفراد على التصرف في المال العام فلا قائل به، لأن القانون والواقع يتيحان، لممثلي الدولة التصرف في أملاكها، الدولة التي تعد من منظور القانون شخصا اعتباريا ذا ذمة خاصة. ويتأكد وجوب زكاة المال العام إذا علمنا أن الدول الغنية اعتادت إنشاء مؤسسات استثمارية يعهد إليها بإدارة أموال الدولة خارج إطار الميزانية والعمل على إنمائها للأجيال القادمة مما يتطلب دفع ما يترتب على استثمارها من أعباء وضرائب ورسوم يتم الوفاء بها في الغالب ولو بلغت نسبا معتبرة من الأموال المستثمرة ولذلك فمن المجانف للصواب حرمان المحتاجين من النصيب اليسير الذي افترضه الله لهم في أموال أغنياء المسلمين.. أما التخصيص للمنفعة العامة للمسلمين فلا قائل باعتماده في ظل تفرق أهل الملة بين دول متفاوتة الثراء، على نحو جعل مفهوم بيت مال المسلمين غير قائم في زماننا هذا.

 

وجدير بالملاحظة أن فتوى إعفاء الأموال العامة من الزكاة ليست الفتوى المعاصرة الوحيدة التي أعفت الأغنياء من أداء الزكاة للفقراء. فقد ذهب بعض الفقهاء المتأخرين، غفر الله لهم، إلى عدم وجوب زكاة النقود الورقية بعد بدء انتشار تداولها لاعتبارهم الزكاة عبادة لا محل فيها للقياس وتقديرهم أن النقود القانونية لا تقاس على الذهب والفضة ولا على الأنعام والحبوب التي نص الشارع على وجوب زكاتها فيها مقتدين في ذلك برأي محمد عليش (أحد شراح مختصر الشيخ خليل). وقد نقضت فتوى إعفاء ذوي النقود القانونية لما اعتراها من تجاوز للمقصد الشرعي من الزكاة ولتلبسها بحرمان الفقـراء من وسائل الثروة الشائعة التي يتاح لمن يملكها أن يشتري الذهب والفضة والأنعام والحبوب وغيرها.

 

ثانيا / القول بوجوب زكاة المال العام

وتخالف فتوى عدم وجوب زكاة المال العام المتأخرة قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني، المتوفى في القرن الثاني للهجرة (سنة 189 للهجرة)، بوجوب زكاة الأموال العامة المرصودة للنماء والاستثمار وجاء في فتواه: "فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة وحال عليها الحول، فعليه فيه الزكاة.. واستدل بثلاثة أدلة: أولها: أن مصرف الخراج الذي تجب فيه الزكاة غير مصرف الزكاة، فمصرف الخراج عمارة الدين وصلاح المسلمين، وهو رزق الولاة والقضاة وأهل الفتاوى من العلماء والمقاتلة ورصف الطرق وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها وأما مصرف الزكاة فهو الفقراء والمساكين والغارمون وابن السبيل وفي سبيل الله وغير ذلك. وثانيها: أن سبب وجوب الزكاة المال النامي، فإذا اتخذ المال للنماء والاستثمار تعلقت الزكاة به، ولا تأثير لكونه عاما أو خاصا. وثالثها: الاستئناس بالحديث الذي يوجب الزكاة في أموال الأيتام سواء استثمرت أو لم تستثمر بدليل قوله: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" فالحديث يطلب من الأوصياء إخراج الزكاة من أموال الأيتام، فيجب على الإمام أن يخرج الزكاة من أموال بيت المال.".

 

وأعتقد أن سبب فتيا الإمام الشيباني (قاضي قضاة الرشيد الذي تميز بذوق قانوني متميز) بقصر وجوب الزكاة على أموال الدولة المخصصة للاستثمار، هو انطلاقه من ظروف الدولة الإسلامية الواحدة التي عاش في كنفها والتي كان ينتمي لها جل المسلمين وأنه لو عاصر تعدد الدول الإسلامية وتفاوتها في الرزق وإنشاء بعضها لصناديق ثروة سيادية من عائدات المعادن، لأفتى بوجوب دفع الدول الإسلامية الغنية زكاة مالها لمن لا يجدون ما ينفقون.. فمن الوارد بعد أن تعددت الدول الإسلامية وأصبحت إمكانياتها الاقتصادية متفاوتة، فمنها الغني ومنها المعدم وبينهما كثير، التطلع إلى أن تقر ميزانيات الدول الإسلامية الغنية - التي يبلغ مالها نصابا يمكن الاجتهاد في تحديده على أساس متوسط دخل الفرد – مقدار زكاة أموالها وأن توجهها للمحتاجين في الدول الإسلامية الأقل نموا وأن تنشئ برامج ومؤسسات مستقلة تعمل على دفع الزكاة لمصارفها الثمانية الذين حددهم الخالق سبحانه ومن شأن ذلك أن يسهم في نشر الدين ويصب في اتجاه تحقيق التكافل بين المسلمين الذين يتعين أن تفيض زكواتهم لتشمل غيرهم على أساس أن الله تعالى فرض قسطا من الزكاة لغير أهل الملة. وعندما يعاين المجتمع الدولي، الجاد في البحث عن آليات لتقسيم الثروة وتخفيف التفاوت بين الأغنياء والفقراء وما ينجم عنه من مشاكل، نجاعة الزكاة، ستحذو كثير من الكيانات الأخرى حذو المسلمين، بفرض الزكاة أو صدقة تشاكلها على الموسرين لفائدة المحتاجين وسيكون ذلك إسهاما في نشر دين الله. وجدير بالملاحظة أن الدول غير المسلمة تجود بقسط من مواردها للدول الفقيرة حيث يعمل الاتحاد الأوروبي مثلا على إقناع أعضائه بأن يتبرعوا بنسبة 0,70 % من ناتجهم الداخلي الخام سنويا لمساعدة الدول الفقيرة.. فاعتبروا يا أولي الألباب.

 

ثالثا / أسباب نقض فتوى عدم وجوب زكاة المال العام

بعد تراجع فتوى عدم وجوب زكاة الأوراق النقدية المتداولة، لتلبسها بحرمان المحتاجين من حقهم في العملات التي حلت محل الذهب والفضة، يتعين نقض الفتوى بعدم وجوب زكاة المال العام لأن الأسباب التالية تبرر الرجوع عنها:

 

1.  وجوب التفرقة بين أموال الزكاة والضرائب (الخراج): وكما قال محمد ابن الحسن الشيباني فإن مصرف الخراج غير مصرف الزكاة، فمصرف الخراج عمارة الدولة وإصلاح شؤونها الذي يتطلب صرف الرواتب وإقامة المنشآت العامة وتخصيص ميزانيات للدفاع والتعليم والصحة وغيرها وأما مصرف الزكاة فهم الثمانية المذكورون على سبيل الحصر، فالضرائب والرسوم والإتاوات وغيرها من الحقوق التي تفرضها الدولة وتحصلها يجوز لها أن تخصصها لتغذية ميزانياتها وتمويل مشاريعها الاقتصادية والاجتماعية أما محصول الزكاة، الذي فرضه الله، فليس للدول أن تستعمله لتمويل مشاريعها لأنه أمانة خصصها الخالق لسد خلة المحتاجين (عيال الله) وحدد مستحقين لا يجوز أن يصرف مال الزكاة لغيرهم.

 

2. عدم تأسيس فتوى عدم الوجوب: وعلاوة على تحمل الفتوى بعدم وجوب زكاة الأموال العامة لمسؤولية حرمان المحتاجين من أموال وافرة، يؤخذ عليها أنها غير مؤسسة لأنها بنيت على خلاصات غير مقنعة.. فلا حجية لفتوى معاصرة تتعلق بالزكاة إذا لم يكن مصدرها يستوعب قيم الواقع الاقتصادي المستجدة من نقود وسندات وحسابات.. وبدلا من قصر النظر على الجانب التعبدي للزكاة وغض الطرف عن انعكاسها الاجتماعي، يحسن بالفقهاء أن يستحضروا أثرها على المجتمع المسلم ومحيطه وأن يدركوا أن الشارع فرضها من أجل سد خلة المحتاجين وإشراكهم في مال الله الذي منحه مؤقتا للأغنياء وأنها، في هذا الزمان، وسيلة ناجعة لنشر دين الرحمة والأخذ بأسبابه وأوامره الكفيلة بإنقاذ البشرية.

 

ولا غنى لأولي العلم في هذا العصر عن إدراك حقيقة طغيان اقتصاد المعرفة الذي جعل جل كبار أغنياء العالم لا يملكون ذهبا ولا فضة ولا حبوبا ولا أنعاما ولكنهم يملكون وسائل تمكنهم من شراء ذلك كله ومن اقتناء مختلف السلع والخدمات وكثيرا ما كان مصدر ثروتهم ابتكارا أو براءة تتقرر لصاحبها حقوق مستمرة وقد دفعت الوفرة بعض أثرياء العالم من غير المسلمين إلى تخصيص جزء معتبر من ثروتهم للأعمال الخيرية بدوافع إنسانية.. فاعتبروا يا أولي الألباب.

 

رابعا / ضرورة مسايرة الفقه للواقع وأهمية تحيين مصارف الزكاة

يجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بأن يساير الفقه الواقع المعيش ويتم ذلك بالتقيد بما فرض الله والرفع من مستوى الفتاوى المتعلقة بالزكاة كي تنتج هذه الشعيرة أثرها المنشود وتنعكس على حياة المحتاجين وأول خطوة في ذلك المسار هي تحريرها من تأثير الحكام والأغنياء لأن صفتهم كمدينين بالزكاة قد تدفع بعضهم في مسعاه لاقتصاد النفقات لمحاولة التملص من التزاماته أو العمل على الحد منها وكما يتهرب الكثيرون من الدفع باختلاق الذرائع والحجج لا يؤمن أن يسعى بعض مديني الزكاة إلى طلب فتاوى تجنبهم الأداء من جهة وتعفيهم من مسؤولية التقصير في الالتزام بأوامر الله وما يترتب على ذلك من استنكار عموم المسلمين.

 

وعملا بقاعدة "لا اجتهاد مع وجود النص" تعتبر الزكاة واجبة كالصلاة مع فرق جوهري بين الركنين يتمثل في أن الصلاة عبادة خاصة بين العبد وربه أما الزكاة فعبادة متعدية تترتب عليها حقوق مالية حيوية للآخرين وعندما يتعين الاجتهاد يجب رد الأمر إلى فقهاء مستقلين أسخياء يشفقون على المحتاجين وينطلقون من الكتاب والسنة لاستنباط مقاصد الشريعة ويسقطونها على الواقع ويتعين، أخذا بالمصالح، تطبيق قاعدة تفسير الشك لصالح المحتاج.. وعملا بقاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" يجب أن يكون الفقيه مدركا للواقع ومعاملاته عارفا بنظرية الشخص الاعتباري كي يميز أشخاص القانون ويدرك ماهية الدولة وطبيعة الفاعلين الجدد من شركات وصناديق ومصارف وغيرها من الكيانات التي تعتبر أشخاصا اعتبارية ذات ذمم منفصلة عن ذمم ملاكها.

 

إن أي شخص لا يستوعب التحول الجذري في طبيعة الثروة وكيف تغيرت من نقود عينية (ذهبية وفضية) وأنعام وحبوب إلى نقود قانونية (ورقية ومعدنية) قبل أن تطغى الأسهم والسندات وتسود الحسابات وبطاقات الائتمان الإلكترونية التي تتيح لحاملها، الذي تتوفر في حساباته مؤونة كافية، شراء الذهب والفضة والأنعام والحبوب دون أن يدفع قيما محسوسة، أقول من لا يدرك تجليات ومآلات هذا التطور غير مؤهل للإفتاء مهما كان ضليعا في علوم الشريعة حافظا لمتونها.

 

وعلاوة على ذلك تتطلب مسايرة العصر تحيين مفاهيم مصارف الزكاة بالانطلاق من الواقع وقسمة الحصص المستحقة على ذلك الأساس وقد حصر الخالق مستحقي الزكاة في الآية 60 من سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي حديث أبي داوود: "عن زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ". ومن الملاحظ أن الزمن أضاف لكل مستحق من مصارف الزكاة الثمانية تفسيرا يتعين وضعه في الحسبان ولذلك نستعرض المصارف الثمانية مع التركيز على مفاهيمها المعاصرة:

 

1. 2. الفقراء والمساكين: تختلف المذاهب الفقهية في تحديد مستوى حاجة المسكين أو الفقير وأيهما أكثر فاقة وبغض النظر عن ذلك الاختلاف فإن أحوجهما هو الذي يقل دخله اليومي عن 2,15 دولار آمريكي (850 أوقية موريتانية قديمة) تبعا لما قرره البنك الدولي سنة 2022 كمستوى لخط الفقر بالنسبة للفرد باعتبار أسعار الحاجات الضرورية للعيش وهو تقويم تسعى المؤسسة الدولية إلى تحيينه بصورة دورية، أما المصرف الآخر (مسكين أو فقير) فهو الذي يقل دخله عن متوسط يتعين الاجتهاد في تحديده في كل بلد.. ولهذا يتعين على البلدان الإسلامية الغنية أن تخصص ثمن زكاتها لفقرائها أو مساكينها وأن تسعى لطريقة ناجعة وآمنه لتوصيل الثمن الآخر إلى مصرفه في البلاد الإسلامية التي تعيش نسبة معتبرة من سكانها تحت خط الفقر.

 

3. العاملون على الزكاة: لعـل غياب عاملين يقومون على الزكاة هو السبب الرئيسي للتساهل في أمرها فلا غنى للمجتمع المسلم عن عدول مستقلين يعملون على إيتاء الزكاة وللنجاعة يتعين إنشاء عمالة للزكاة تضم في تشكيلتها ممثلين عن مختلف فئات المسلمين كي لا تتغلب مصالح الدافعين على أن تتمثل مهمة جهاز الزكاة في التحصيل من المدينين والصرف على المستحقين واتخاذ التدابير الكفيلة بضمان الإيتاء ومنع التهرب وقد فرض الشارع ثمن الزكاة لرواتب العاملين عليها وما يتطلبه عملهم من أنشطة علمية وعملية وكما تحفز مصالح الجباية المعاصرة وكلاءها بنسبة من المبالغ المحصلة بفضل عملهم يجوز أن تخصص للعاملين على الزكاة إكراميات تحثهم على الجد في التحصيل.

 

4. المؤلفة قلوبهم: لم يقصر الخالق مال الزكاة على المسلمين وإنما افترض جزءا منه للمحتاجين من غير أهل الملة رحمة بهم وربطا للأواصر الإنسانية بين البشر وترغيبا في الرحمة وهذا ما يتطلب من المسلمين وخاصة العاملين على الزكاة أن يصلوا إلى بؤر الفقر المدقع خارج بلاد المسلمين ويوصلوا ثمن الزكاة لها امتثالا لأمر الله وطلبا للأجر ومساهمة في نشر دين الحق.

 

5. في الرقاب: خصص الله تعالى ثمن الزكاة لمحاربة العبودية ورواسبها المتبقية في بلاد المسلمين لا بتحرير الأرقاء فحسب وإنما بإزالة آثار هذا الظلم الشنيع الموروث عن حياة الجاهلية التي كان فيها الإنسان يسخر نظيره لخدمته، يرثه ويتصرف فيه كسلعة تباع وتشترى. ولئن تراجعت هذه الممارسة إلى حد كبير فإن آثارها المتمثلة في الفقر والجهل لا تزال قائمة في بعض بلاد المسلمين لذلك لا يجوز حرمان أبناء الأرقاء السابقين المحتاجين من القسط المفروض لهم في مال الزكاة. ومن الجدير بالملاحظة أن المتشبعين بالفكر الإستعبادي تمسكوا بفتاوى صادرة إبان سريان نظام الرق بالقول إنه لا يجوز دفع الزكاة لضحايا العبودية، باعتبارهم من محمولي نفقة، دون اعتبار لكونهم أولى بها من غيرهم لأن الله خصص لهم ثمنها.

 

6. الغارمون: وهم المدينون العاجزون عن الوفاء الذين يجوز أن يحصلوا على ثمن مال الزكاة لمساعدتهم على السداد ومن أكثر هؤلاء الغارمون المسجونون بسبب غلبة الدين في البلاد التي لا تزال تعتمد نظام الإكراه البدني في المادة المدنية وتوجد في العالم اليوم بلدان تجاوزت الديون المطلوبة عليها قدرتها على الوفاء (الدول الفقيرة المدينة جدا PPTE) مما يتسبب في تعطيل دوران عجلة التنمية فيها ويتضرر جراء ذلك المحتاجون وغيرهم مما يجعل تحريرها من الدين أولوية على النحو الذي ينتهجه المجتمع الدولي منذ عقود.

 

7. في سبيل الله: يعود ثمن الزكاة للمجاهدين في سبيل الله الساعين لنصرة الدين والمدافعين عن حياضه مما يعرضهم لمواجهة قوى غير مسلمة تجد سندا ماديا في حلفائها مما يوجب على المسلمين إسناد إخوانهم المجاهدين في سبيل الله ويجب قبل التبرع لهؤلاء العمل على أن يصرف لهم نصيبهم المفروض في الزكاة عملا بقاعدة "لا يتنفل من عليه القضاء".

 

8. أبناء السبل: وهم الذين لا يجدون مسكنا ثابتا يؤويهم (SDF) ومنهم اللاجئون والمهاجرون غير النظاميين الذين يضربون في أرض الله ويتحملون المخاطر من أجل حياة كريمة وآمنة بينما تزجرهم الدول الغنية عن حياضها لذلك يتعين إنشاء جهاز إسلامي خاص بإغاثة أبناء السبل والتعاون في ذلك مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة وغيرهما من الهيئات الحكومية وغير الحكومية.

 

خامسا / كبار المدينين بالزكاة

يلاحظ أن الأموال الإسلامية المرصودة للاستثمار وافرة لدرجة أنها تحتل مكانة متقدمة عالميا فمن ضمن قائمة صناديق الثروة السيادية العشرين، الأوفر مالا على الصعيد الدولي، توجد تسعة صناديق مملوكة لدول إسلامية: أربعة منها لدولة الإمارات العربية المتحدة وواحد للمملكة العربية السعودية وواحد لدولة الكويت وواحد لإمارة قطر وواحد للجمهورية التركية وواحد لجمهورية إيران الإسلامية (وقد رتبت  الدول حسب وفرة أصول صناديقها المذكورة طبقا لقائمة المائة صندوق سيادي الأكبر مرتبة باعتبار وفرة الأصول Top 100 largest Sovereign Wealth Fund Rankings by total assets وهي قائمة يصدرها سنويا معهد صناديق الثروة السيادية Sovereign Wealth Fund Institute).

 

وإذا رجعنا لمعطيات معهد صناديق الثروة السيادية SWFI لسنة 2023 واحتسبنا نسبة ربع العشر (2,5 %) الواجبة كزكاة سنوية في النقود وفي أصول التجارة نجد أن بعض الدول الإسلامية مدين بمبالغ معتبرة للمحتاجين وقد ارتأيت أن أقتصر في هذا المقال على ذكر كبار المدينين بالزكاة وهي الدول الإسلامية التي تملك صناديق الثروة السيادية المدرجة على قائمة العشرة وارتأيت ترتيبهم حسب حجم الزكاة المطلوب عليهم برسم السنة المنقضية (2023):

 

1. دولة الإمارات العربية المتحدة: مدينة لمصارف الزكاة بمبلغ أربعة وعشرين مليارا وثمانمائة وخمسة وعشرين مليون دولار آمريكي (24.825.000.000) بسبب أصول جهاز أبو ظبي للاستثمار ADIA، وهو صندوق الثروة السيادي الرابع عالميا والذي بلغت أصوله سنة 2023 تسعمائة وثلاثة وتسعين مليار دولار آمريكي (993.000.000.000).

 

2. المملكة العربية السعودية: مدينة لمصارف الزكاة بمبلغ ثلاثة وعشرين مليارا ومائة وخمسة وعشرين مليون دولار آمريكي (23.125.000.000) بسبب أصول صندوق الاستثمارات العامة السعودي PIF ، وهو صندوق الثروة السيادي الخامس عالميا والذي بلغت أصوله سنة 2023 تسعمائة وخمسة وعشرين مليار دولار آمريكي (925.000.000.000).

 

3. دولة الكويت: مدينة لمصارف الزكاة بمبلغ ثلاثة وعشرين مليارا وستة وثمانين مليونا ومائتين وخمسين ألف دولار آمريكي (23.086.250.000) بسبب أصول الهيئة العامة للاستثمار KIA وهي صندوق الثروة السيادي السادس عالميا حيث بلغت أصولها سنة 2023 تسعمائة وثلاثة وعشرين مليارا وأربعمائة وخمسين مليون دولار آمريكي (923.450.000.000).

 

4. دولة قطر: مدينة لمصارف الزكاة بمبلغ ثلاثة عشر مليارا ومائة وواحدا وخمسين مليونا ومائتين وخمسين ألف دولار آمريكي (13.151.250.000) بسبب أصول جهاز قطر للاستثمار QIA وهو صندوق الثروة السيادي الثامن عالميا والذي بلغت أصوله سنة 2023 خمسمائة وستة وعشرين مليارا وخمسين مليون دولار آمريكي (000.000526.050.).

 

وتلي هذه الصناديق من حيث وفرة الأصول ثلاثة صناديق إماراتية هي مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية Investment Corporation of Dubai  ( وتحتل الرتبة 12 عالميا) ومجموعة أبو ظبي القابضة  Abu Dhabi Developmental Holding Company (وتحتل الرتبة 14 عالميا) وشركة مبادلة للاستثمارات Mubadala Investment Company (وتحتل الرتبة 18 عالميا) بالإضافة إلى صندوق الثروة التركي Turkey Wealth Fund  (ويحتل الرتبة 13 عالميا) وصندوق التنمية الوطني الإيرانيNational Development Fund of Iran  (ويحتل الرتبة 16 عالميا).

 

سادسا / التوصيات

امتثالا لأمر الله تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرۢ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰاحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاة ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} الآية 114 من سورة النساء، أختم هذا المقال بالتوصيات التالية:

 

1. أوصي رابطة العالم الإسلامي أن تعمل على إعداد عهد للزكاة تعرضه على مصادقة الدول الأعضاء لتتقرر بموجبه الإجراءات التالية:

 

أ. إنشاء عمالة إسلامية للزكاة تتكفل بتحصيل حقوق المحتاجين وتوصيلها لهم وأن تضم العمالة أقساما للدراسات والنشر تتابع التقارير المتعلقة بالثروة وتقوم بالتحريات اللازمة لاستقصاء بؤر الحاجة ومظان المصارف وإدارة عمليات تتكفل بالتحصيل بتنبيه المكلفين بوجوب الدفع واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإرغامهم على الاستجابة عند الاقتضاء والصرف للمستحقين،

 

ب. إنشاء محكمة مستقلة تختص في نظر دعاوى الزكاة المرفوعة ضد الدول الإسلامية وصناديقها ومؤسساتها، يكون من القواعد المطبقة أمامها تفسير الشك لصالح المحتاجين أخذا بالمبدأ المعتمد في التأويل.

 

2. أوصي الدول الإسلامية الغنية بالسعي للتغلب على الشح وأن تطيب أنفس مواطنيها وحكامها بدفع زكاة الأموال الإسلامية العامة المستثمرة في أصقاع الدنيا على أساس أن مسيري صناديق الثروة السيادية يخولون دفع الضرائب التي تفرضها مواطن الاستثمار والتي تبلغ في الغالب أضعاف ضريبة الرحمن، فلماذا لا يخولون صرف الزكاة التي فرض خالق الأرض للمحتاجين؟! ومن الأسباب المشجعة على دفع الزكاة كون أغلب الأنظمة الجبائية تحتسب الضرائب بعد الاقتطاع المسبق للأعباء والمصاريف ومنها الزكاة مما يعني أن دفعها لن يؤثر كثيرا على حجم الثروة لأن الخصم المذكور يؤدي لتخفيف الضريبة على الدخل مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: "ما نقصت صدقة من مال".

 

3. أوصي المجتمع المسلم بالتعاون على إنشاء جمعيات للدفاع عن حقوق المحتاجين تتبنى أساليب العمل المدني لتفعيل الزكاة وإشاعة الصدقات بين المسلمين.

 

وأختم هذا المقال بموقف من مواقف المروءة، أملا في أن يرفع إلى علم حكام المسلمين وأغنيائهم، وهو أن أحد التجار الموريتانيين، لما سمع الخلاف بين القائلين بوجوب زكاة الأوراق النقدية والقائلين بعدم وجوب زكاتها، قال: سأدفع زكاتها، لأني أفضل الإجابة، يوم الحساب، على السؤال: لماذا دفعتها، عن الرد على سؤال: لم منعتها؟!