على مدار الساعة

تحريفات خطاب مؤتمر بذل السلم.. "هوامش على خطاب بن بيه"

12 فبراير, 2022 - 02:19
د. محمد المختار المهدي

ما كنت لأشغل نفسي بالرد على تخاريف منظري "السلم"، وباذلي وهم التعايش ممن باع آخرته بدنيا غيره ورضي أن يصطف في فسطاط أعداء الإسلام وخصوم الملة، ذلك أن أطروحات هذا الفريق متهافتة تهافت مواقف أصحابها الذين لا يقتنعون بها، وإنما يلوكون عباراتهم بدافع من الطمع والنفاق، ولو أردنا أن نحسن الظن ببعضهم لقلنا إنهم مغفلون في خطاب ومواقف من يقف خلف هذه المؤتمرات ممن أراد لأمة الإسلام أن تزيد هوانا على هوانها، وتبقى مقدراتها رهن إشارة أعداء الإسلام مستعبدة مخيسة لهم، تعبدهم من دون الله وتقدم لهم فروض الطاعة والولاء، لا يحتاج خطاب هذا الفريق إلى من يفككه أو يرد عليه فهو أوهى من بيت العنكبوت، لكن نصر الحق فضيلة وقمع الباطل وسيلة إلى الله تعالى، على حد تعبير ابن حزم، وطلبا لتلك الوسيلة أردت أن أضع بعض الملاحظات على خطاب رئيس المؤتمر عبد الله بن بيه الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر بذل السلم.

 

لقد حرف الشيخ الكلم عن مواضعه ولوى عنق نصوص الكتاب والسنة كي يوظفها فيما أراد من تسوية الكافر بالمؤمن، والمجرم بالمسلم بعد أن نفى القرآن تلك المساواة، وأثبت ذلك الفرق القائم على الفرق في الدين والمعتقد أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالك كيف تحكمون؟، ومن تلك التحريفات التي وردت في خطاب الافتتاح:

 

1. الأثر الذي جعلوا منه عنوانا لمؤتمرهم، وهو أثر أورده البخاري معلقا عن عمار "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار".

 

فبذل السلام هنا لا علاقة له بالصلح مع الأعداء وإنما معناه إفشاء السلام المأمور به المستحب؛ ولذلك أورده البخاري في باب إفشاء السلام، ولا إشكال في قوله: "بذل السلام للعالم"؛ لأن الكفار يبذل لهم السلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقة ذلك البذل، كما ورد في رسالته إلى هرقل عظيم الروم، حيث جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى" صحيح البخاري، حسب ترقيم فتح الباري (8/ 72)، وقد جاء النهي عن أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام: عن أبي هريرة رفعه لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطريق.

 

قال ابن حجر: "إذا كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة من حق صحبة أو مجاورة أو مكافأة أو نحو ذلك والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه كأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره سلام على من اتبع الهدى وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال السلام على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم السلام على من اتبع الهدى". فتح الباري لابن حجر (11/ 40)

 

فبعد هذا الأثر أن يكون دليلا أو مستندا لمسالمة الكفار وترك محاربتهم، كيف ذلك وهو في معناه الأصلي الذي حرف عنه معارض بما ذكرنا من الأحاديث.

 

2. من النصوص الشرعية التي جرى تحريفها في كلمة ولد بيه في الافتتاح، حديث السفينة، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" أخرجه البخاري. فقد استدل  الشيخ بهذا الحديث على التضامن العالمي والمصير المشترك بين العالم ومسؤوليتهم المشتركة عن مصيرهم، ولا أدري كيف استقام هذه الاستدلال للشيخ، ومن أين أتى به، والواقع أن هذا الحديث واضح الدلالة في ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكبت أهل الفسوق والعصيان، هذا ما أبانه أهل الدراية من معنى هذا الحديث قال ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث: "وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها" فتح الباري لابن حجر (5/ 296). فاتضح أن مقصود هذا الحديث فائدة تغيير المنكر وإقامة حدود الله على العصاة، وأن أي معنى آخر من التضامن التعايش يراد له أن يكون معناه ليس معنى له إلا على سبيل التحريف والتأويل اللعب.

 

3. ومن النصوص الشرعية التي جرى تحريفها قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} الآية. فقد أوردها الشيخ في معرض حديثه مستدلا بها على مصالحة الكفار، والحقيقة أن هذا تحريف للآية عن موضعها، فالآية إنما هي في الصلح بين الأفراد والقرابات، إذ فسر العلماء الصلح فيها على أنه إصلاح ذات البين، قال القرطبي في تعليقه على هذه الآية: "عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين".

 

وعلى هذا المعنى فسرها ابن كثير في تفسيره واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة؟ " قالوا: بلى. قال: "إصلاح ذات البين" قال: "وفساد ذات البين هي الحالقة". ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي: حسن صحيح.

 

4. ومن التحريف الذي ورد في كلام الشيخ خلال افتتاح مؤتمر بذل السلم، صرف النصوص الشرعية الواردة في معاملة المسلمين إلى الكفار تسوية بينهم، كما مر معنا في النصوص التي رأينها، حيث يعمد هؤلاء إلى تسوية لم يأذن بها الله تعالى، فيجلعون للكفار ما للمؤمنين، كلا بل نفى الله في محكم كتابه تلك التسوية، فقال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر: 20]

 

وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28].

 

إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي التسوية بين المؤمن والكفار، إذ كل منهما له تعامله الذي يناسب وضعه وظرفه، ولذلك وكان من صفة النبي صلى الله على وسلم وصحابة أنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].

 

وتتجلى هذه التسوية أكثر حين يعمد ابن بية إلى الأحاديث التي تأمر بكف الأذى عن المسلمين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، ليعمم معنى هذا الحديث ليشمل غير المسلم في تحريف  للحديث عن معناه، وقد استدل ابن بيه ببعض الروايات التي وردت فيها عبارة "الناس" بدل المسلمين، لكن تلك الروايات إنما تقصد المسلمين وهي مفسرة بالنصوص التي تعني المؤمنين، قال ابن حجر تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السيئات والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده). " والمراد بالناس هنا المسلمون كما في الحديث الموصول فهم الناس حقيقة عند الإطلاق لأن الإطلاق يحمل على الكامل ولا كمال في غير المسلمين ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم" فتح الباري لابن حجر (1/ 54).

 

وإذا افترضنا أن هذا الحديث يعني الناس عامتهم فأين هو من الأوامر القرآنية في جهاد الكفار والشدة الغلظة عليهم {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 123].

 

5. بل الأخطر من ذلك أن بن بيه خلال خطابه قد قرر عصمة دم ومال الآدمي من حيث هو آدمي مستندا إلى هذه النصوص التي ذكرنا حيث رآها عاصمة لحقوق الإنسان من حيث هو إنسان، وما علمنا عصمة إلا للمؤمن، فهو معصوم الدم والمال والحرمة، غير أن بن بيه جعل تلك العصمة للجميع! في تحريف واضح لنصوص الشرع الواضحة في عصمة من آمن فقط. عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" صحيح البخاري (1/ 13)

 

ففي هذا الحديث أن الإسلام هو العاصم لدم الإنسان وماله وعرضه، وغير المسلم لا حرمة له إلا إن كان ذميا معاهدا فله الوفاء بعهده مالم تخش منه الخيانة فإذا خيفت منه الخيانة وجب أن ننبذ إليه عهده ونتحلل منه.

 

نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة والدنيا والآخرة وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ويلهمنا الرشد.