على مدار الساعة

مشوي غزواني وخرافات الوعظ السياسي

23 مارس, 2022 - 16:59
الشيخ ولد المامي

مدخل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} المائدة.

 

المقال: كثيرة هي الأمور التي نختلقها ونصدقها، وكثيرة هي الأمور التي نؤسسها على الحقيقة؛ ثم نضيف لها نسبة معتبرة من الخرافة ونعتقد أنها صحيحة بل ونحاسب آخرين على مقتضى تلك الخرافة التي بنيت على أصل صحيح.

 

جاء في المأثور الشعبي؛ أن الدب عاد من سفر خارجي له فاستقبله الصغار وطلبوا منه الهديا والحلوى فتذكر أنه نسي أن يصطحب الهدايا معه، فدارى الصغار أنه وضع كيس الهديا خلف الكثيب، فانفض الصغار يتسابقون نحوه، ساعتها هرع الدب في إثرهم وهو يقول: يبدو أن أمر الهدايا صحيح.

 

عشية المهرجان الانتخابي للمترشح – آنذاك - محمد ولد الشيخ الغزواني في مدينة ألاك قال في معرض حديثه عن العدالة وغياب الفوارق ما مقتضاه: (لا يمكن أن نكون عادلين إذا كنا نأكل "المشوي" والشعب لا يجد ما يسد به رمقه، بل ينبغي على الأقل إذا أكلنا المشوي أن يجد الشعب ما يتغذى عليه).

 

ولحسن نية بعض من سمع بالحديث - مُحرَّفا كان أو مؤصلا - فقد رفع سقف التوقعات بعد تنصيب الرئيس ولهم الحق في ذلك، بل إن توقعاتهم كانت فوق الإمكانيات المعقولة لدولة تصنف دوليا بـ"الفقيرة" لدرجة أن البعض أصبح يجهز نفسه لدعوة من الرئيس غزواني على صفيف الشواء؛ في التباس ساذج بين الرئيس والعريس.

 

وعلى الضفة الأخرى ولسوء نية آخرين ممن تولوا كبر تدليس وتسويق المُدلّس من حديث الرئيس في ألاكـ، وفي ظل الأزمات العالمية والجائحة أصبح هؤلاء يسوقون فرية مقتضاها أن الرئيس وعد المواطنين بأكل الشواء، في حين أن الأمر لم يحدث بالفعل؛ معتبرين أن ذلك دليل على عدم وفاء الرئيس بتعهداته.

 

الواقعي والصحيح أن الرئيس لم يَعد أحدا بأكل "المشوي" إنما تكلم فقط عن الفوارق بين طبقات الشعب وضرورة العمل على تقليصها، دون أن يتعهد بشيء آخر، لكن الآلة الإعلامية الموجهة للرأي الشعبي أو الساذج منه على الأصح؛ عملت على تصوير الأمر على طريقة "الكذبة التي تعاد بشكل متكرر سيصدقها الناس حتما".

 

وغير بعيد عن "المشوي" فإن ترويج الوهم المعسول الذي يخالف سنة الفوارق التي تميز القمة عن القاعدة منذ الأزل، قد لاقت ترويجا منقطع النظير من قبل الآلة الإعلامية الطوباوية في الفترة الأخيرة.

 

فلا مشاحة أن هناك سنن جبل عليها الكون منذ الأزل، وأصبحت دستورا كونيا سائرا، لا يعلم أحد من وضعه في الأصل لكنه موجود بالفعل، والكل يحترمه ويسير وفق قوانينه وضوابطه مع الفوارق.

 

فالتركيز على أبهة الرئيس ومقربيه والفوارق في المميزات بين الرئيس والمرؤوس أصبحت أسطوانة مشروخة لتأليب الشعب على من يحكمه، فساعة الرئيس وساعة حرمه وموديل سيارات موكب الرئيس، ومقر إقامته، ومنزل الوزير، والصناديق السوداء لبعض القيادات العسكرية، ورصد الميزانيات والصناديق ومواطن القوة في القطاعات الحساسة، ومراكز الكونترول لدى الجهات السيادية، ومعايير اختيار الموظفين فيها، أصبحت مواضيع نقاش ونقاط تأليب وحججا تبنى عليها الأحكام المزاجية على المغضوب عليهم.

 

ونحن إذا نظرنا بتجرد فإننا نجد أمريكا أم الديمقراطية والمساءلة تتحمل وسائل راحة قادتها ببذخ؛ من مظهرهم الخارجي لأكسسواراتهم، لوسائل نقلهم المريحة لطبيبهم وطباخهم وحلاقهم ومدلكهم الخاصين، بل إنه بلغ بهم الأمر لدرجة أن السيارة الرئاسية "الوحش" التي يبلغ ثمنها أكثر من مليوني دولار، يمنع تصميم نسخة أخرى منها على الجهة المصنعة.

 

همّ الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، أن يصادر تحف ومقتنيات قصور الخلافة، والزخارف والزركشات الثمينة في الجامع الأموي ويعيدها لبيت المال، لكن نصيحة أحد خلصائه بأن وجود تلك المظاهر يعطي مظهر قوة للدولة أمام أعدائها جعله يعدل عن ذلك.

 

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحاسب القادة على مقتنياتهم الشخصية، خصوصا أن أغلبها يعود في أصله لهدايا شخصية من نظراءهم، وإذا كان بعض القادة تنازل عن بعض تلك الهديا، فإن تنازله يدخل في خانة التطوع، والتطوع ميزة إيجابية لفاعله لكن الممتنع عن فعله غير آثم ولا مذموم.

 

يحاول متعاطو الوعظ السياسي المستحدث أن يجعلوا منه سلاحا يقضي على المُثل التي سار عليها الكون منذ نشأته، وأن يسن ثورة مفاهيمية جديدة دون مراعات لدراسة الخصائص والفوارق، ودون ركون لفهم حقيقي لمكانيزما المُثل التي يريد الثورة عليها، ولعل هذا ما حدى بأكثر المراقبين انفتاحا ووسطية لوصفه بأنه مجرد طفرة شعبوية وأزمة أخلاقية ستنزاح مع أول نسائم الإصلاح.

 

للعبرة: إذا كانت حريتك لا تتوقف عند حدود شتمي؛ فإن حريتي لا تتوقف عند حدود صفعك.