على مدار الساعة

ما كل متهم بريء

6 يوليو, 2023 - 02:04
أحمد يعقوب – أستاذ جامعي

براءة المتهم حتى تثبت إدانته حق مقدس تجب حمايته، ومقصد شرعي لا بد من صونه، ومبدأ قانوني من أحسن ما سطرت البشرية في مجال العدالة والحقوق على مر التاريخ، ولكن كل ذلك لم يشفع في منع هذا المبدأ الجميل من الابتذال حتى صار مِجن كل مذنب مجاهر بآثار جريمته ماهر في إخفاء أدلة الإثبات، وأصبح حجة المدافعين عمن أحاطت بهم قرائن الأحوال إحاطة تكاد تصل حد اليقين، في تحريف لهذا الأصل الأصيل عن مواضعه لا يدانيه إلا التعسف في تحريف مبدأ "لا حكم إلا لله".

 

إن الشريعة والقانون وتطبيقاتهما تقوم في الغالب على الظنون الراجحة لدرجة تقارب اليقين ما أمكن، وهذه الظنون تكفي فيها مجاري العادات وشهادات البينات وقيام القرائن التي تطمئن إليها نفوس ذوي النهى والأحلام، وليس من الضروري ولا من المعقول اشتراط اليقين الجازم في صحة جميع النصوص ولا تفسيرها ولا تطبيقها، وإلا لأبطل هذا الشرط أغلب الشرائع وعاد على نفسه بالإبطال.

 

ومبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته لا يمكن أن يكون عاما لجميع الناس ولا مطلقا في جميع الأحوال، فهو مخصوص بالعقل والعادة وبالشرع أحيانا، كما أنه مقيد من وجوه كثيرة، وأول ما يقيده هو نفسه بنفسه بمفهوم غاية، غاية في الوضوح، فمن ثبتت إدانته فليس بريئا ولا يمكن لمنكر أن ينكر أنه مذنب بنص هذه القاعدة. وثبوت الإدانة أعم بكثير من مجرد صدور الحكم القضائي البات النهائي بالإدانة الجازمة، بل يعمها ويعم أنواعا أخرى من الإثباتات لا تقبل النفي ولا تحتمل النقيض في العادة. وما أكثر الحالات التي رفض فيها المحامون بالإجماع الدفاع عن "متهم" بسبب بشاعة الجرم ووضوح الأدلة وعظم جناية الفاعل حتى قبل أن يعرض على القضاء.

 

ومع تخصيص وتقييد قاعدة براءة المتهم بمخصصات ومقيدات داخلية وخارجية فإنها لا تعدو أن تكون أصلا من الأصول مثل أصل براءة الذمة وأصل إباحة الأشياء، والأصل يستصحب ما لم يعارضه ظاهر أقوى منه، وما أكثر الحالات والمسائل التي غلب فيها الفقهاء الظاهر الأقوى على الأصل الأضعف، فكم من قضية قضي فيها بشغل الذمة بناء على الظاهر المعارض بالأصل، وكم من أشياء أفتى الفقهاء بأن الأصل فيها التحريم تغليبا لقوة لظاهر على استصحاب الأصل، وكم من مذنب غلبت قرائن وأدلة إدانته أصل براءته خصوصا وبراءة الناس عموما من الدعاوى والتهم.

 

فكيف يكون المتهم بريئا إذا كان مقرا على نفسه إقرارا صحيحا صريحا أو ضمنيا بارتكاب الفعل محل التهمة أو بلازمه أو ملزومه كما هو مسلّم لدى الفقهاء في أحكام الإقرار؟ ألا يفترض أن تظل فحوى الإقرار مستصحبة منذ وقت صدوره إلى ما بعد النطق بالحكم القضائي؟ بلى، ولولا تعقيدات الإجراءات القضائية المعاصرة وطول سلم التقاضي الحديث لكان ثلث الدعاوى المبنية على الأقارير قد بت فيها في جلسة واحدة أو جلستين.

 

وكيف يكون المتهم بريئا إذا كان قد ضبط مجاهرا أو متلبسا أمام مرأى ومسمع جميع أجهزة الضبط والتقاضي والتنفيذ بارتكاب فعل من الأفعال التي تقتضي العقاب أو التأديب؟ أو متلبسا تلبسا دائما بأفعال محرمة أو أحوال مجرمة بشكل مستمر بين يدي العامة والخاصة؟ ألم يفت الفقهاء من قبل بدرء الحد عن قاذفي المشتهرين بالفسق والمجون بحكم أن قذفهم ما هو إلا تأكيد للأمر الواقع الذي يعلمه كل أحد.

 

وكيف يكون المتهم بريئا إذا ثبتت إدانته بحسابات العقل القطعية، ومدركات الحس البدهية، وروايات السمع المتواترة؟ ألا تكفي هذه كلها في تجريم فرعون وهامان وقارون عن آلاف الصفحات من الأدلة الجزئية الفرعية والإجراءات المطولة المعقدة التي وإن برأت المتهم ظاهرا فـإن الله وملائكته وأولي العلم يعلمون أنه ليس ببريء، وربما كان هو نفسه يعلم في قرارة نفسه أنه مجرم.