على مدار الساعة

الجينات الثقافية

22 يوليو, 2023 - 01:37
أحمد يعقوب – أستاذ جامعي

تتألف الثقافات البشرية ومكوناتها الكبرى مثل العقائد والأفكار واللغات والعادات من وحدات صغرى كما تتكون الكائنات الحية من خلايا فما دونها في الصغر، حسب مبتكر نظرية الـ"ميم" MEME عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد ديكنز الذي أراد لاسم نظريته أن يكون موازيا لكلمة GENE في اللفظ والكتابة والدلالة.

 

والـ"ميم" حسب هذه النظرية هي الوحدة الثقافية التي قد تكون فكرة أو لفظا أو إشارة أو حركة أو نغمة تتوارث من جيل إلى جيل محافظة على بنيتها الأساسية عبر الزمن، كما تنتقل من حقل ثقافي إلى آخر بنفس الطريقة التي تنتقل بها المورثات من حقل جيني إلى آخر بشكل اعتيادي عبر التلاقح الثقافي بين الأفكار واللغات والعادات، أو عبر التطفل كما تندمج الفيروسات مع أي خلية بها مستقبلات مناسبة لتبدأ جينات المتطفل الثقافي بالتكاثر والانتشار من جديد.

 

ومع ما يبدو من مؤشرات على صحة النظرية فإنها لم تصل بعد ولا أراها ستصل قريبا إلى ما وصلت إليها الدراسات الجينية من تقدم، لكن بإمكان أي ناظر أن يجد من الأمثلة في ثقافته الخاصة وفي ثقافات شعوب الأرض عموما ما يؤكد أن هناك استقراء يؤكد صحة الفرضية وإن لم يصل بعد للاستقراء الكامل.

 

فاللهجة الحسانية على سبيل المثال تشي مفرداتها بأنهما مزيج ثقافي من جينات ثقافية عربية وأمازيغية وإفريقية وربما تطفلت عليها الفرنسية كما هو معلوم للجميع، وأما تراكيبها التي تجري مجرى الأمثال فأبلغ دلالة على انتقال جينات ثقافية إلينا من مختلف اللغات والأديان والمذاهب والأفكار التي مرت بهذه الأرض أو مرت بها عبر الزمن.

 

حدثني أحد العارفين بالأمازيغية أن الحسانية وإن كان أكثر ألفاظها عربية في الغالب فإن تراكيبها أمازيغية بامتياز، وضرب أمثالا بعبارات كثيرة نتداولها يوميا مثل إسناد وصف ما إلى عضو من أعضاء الإنسان للكناية عن صفة متعلقة بالموصوف مثل ما يسند للرأس نحو: "ادكديك الراص" وما يسند للعين نحو "طول العين" وغيرهما، فكلها تعابير لا نجد لها مقابلا في اللغة العربية.

 

ومن ميمات التعابير ما يكون مصدره من ثقافات وأديان أخرى مرت أو مر بعض أهلها من هذه المنطقة أو تلك وإن لم يعد لهم وجود بالفعل، فمن العبارات الشائعة وصف الشخص المستهتر أو غير المبالي بالعواقب بأنه "مكطوع نعالة" أو "مكلوع نعالة" وأعترف أني مثل الكثيرين كنت أسمع هذا التعبير وربما أستخدمه دون معرفة أصل حكايته، حتى وجدته بوضوح في مصدر غير متوقع هو "الكتاب المقدس - العهد القديم" أو التوراة.

 

ففي التعاليم التوراتية أن أي أخ توفي وهو متزوج يجب شرعة على أخيه الأكبر الزواج بأرملته طوعا أو كرها، ويظهر من سياق نص التوراة أن الإخوة لم يكونوا دائما ينصاعون لهذا الحكم، ولذا تعطي الشريعة التوراتية المرأة الحق في رفع أمرها وأمر أخي زوجها الفقيد إن هو رفض أن ينصاع للأمر بالزواج بها إلى القضاة والأحبار.

 

وبعد الاستماع لها ولأخي زوجها يصدر الأحبار حكمهم المعروف سلفا لديهم بإدانة الأخ وتفويض امرأة أخيه في تنفيذ العقوبة القاسية معنويا وإن كانت خفيفة بدنيا. تتحرك المرأة بهدوء ودون مقاومة أو اعتراض إلى قدم الرافض للزواج بها وتخلع نعله وتصفعه وتبصق في وجهه وتنادي ويردد معها الجميع أمام الجميع "هذا جزاء من رفض أن يعمل نسلا لأخيه" وعندها يعاقب عقوبة دائمة بإعطائه لقبا يعرفه به العامة والخاصة هو "مخلوع النعل" التي نسمعها اليوم بعبارة "مكطوع نعالة" أو "مكلوع نعالة".

 

وكما نستقبل جينات ثقافية فإننا نصدر أخرى، ومن الصدف العجيبة أني كنت ذات مرة أقابل مع زميل ورقات من مخطوطة شرح مختصر خليل لابن رحال الفاسي في باب الربا، ولفت انتباهي أنه في تعداد الأطعمة التي تعد جنسا أو أجناسا ذكر منها نوعا من الخبز، ثم قال: "والناس عندنا يسمونه بـ:امبور" والغريب أن الكلمة كما يبدو إفريقية ولم تعد مستخدمة في اللهجة المغربية ومع ذلك بقيت دارجة في الحسانية ولا أراها وصلت لفاس إلا عبر الثقافة الحسانية الوسيطة بين ثقافات جنوب وشمال الصحراء. وقد تفاجأت مرة أخرى عندما وجدت أن أهل جمهوريات وسط آسيا يسمون الذرة باسمها الإفريقي الحساني "مك"، وحسب تاريخ المحاصيل فإن هذه البذرة منشؤها إفريقي ويبدو أن أهل إفريقيا لما صدروا جيناتها صدروا معها ميماتها في الوقت نفسه.

 

صحيح أن علم الجينات الثقافية متأخر مقارنة بعلم الجينات الوراثية، وأن الدراسات الثقافية في بلدنا ما زالت متأخرة مقارنة بغيرها من الدراسات، لكن من يدري قد نصل يوما إلى مستوى يمكن معه فهم الخريطة الجينية الثقافية للعالم أو لأجزاء منه على الأقل كما عرف العلماء الجينوم البشري بعد عقود من البحث والمحاولة، وعندها يمكن أن نفهم ثقافتنا وثقافة بقية شعوب الأرض بشكل أحسن، كما يمكن انتقاء ميمات ثقافية ممتازة معينة وتطويرها والتخلص من أخرى ذات أثر سلبي على علينا وعلى غيرنا من الأمم.