يتذكر الناس في الحديث عن الشعر وكتب المالكية أن الذي ورد منه في أم المذهب بيت واحد يقول فيه بعض الأدباء مقارنا بينه وبين المقام بين من لم يألفهم:
أصبحت فيمن لهم علم بلا أدب *** ومن لهم أدب خال من الدين
أصبحت فيهم غريب الشكل منفردا *** كبيت حسان في ديوان سحنون
كنت أوردت نتفا من مساجلات الفقهاء ومطارحاتهم الشعرية في الحلقات التي كتبتها على هذه الصفحة تحت: "من مستجدات نظم خليل لشيخنا المرابط محمد سالم ابن عبد الودود: "عدود" ولا يبعد من ذلك ولا من ما جلب من رأي شيخنا محمد سالم حول الشعر الذي يوجد فيه سب وشتم مما سأعيد بعضه الآن لصلته بهذا الموضوع.
وليس ما أعرضه اليوم من "دفع التشغيب على الفقيه" الذي ورد فيه قول ابن عرفة في سياق كلامه عن شعر عرضه في مختصره: "فإن قلت في هذه الأبيات من عيوب القوافي الإيطاء وهو إعادة كلمة الروي قبل مضي سبعة وقيل قبل مضي عشرة قلت ليس كذلك أما في البيت الرابع فواضح لأن كلمة الروي فيه منكرة وفي غيره معرفة والمنصوص لهم أن الاختلاف بالتعريف والتنكير كاختلاف الألفاظ وأما في البيت الثالث فقد يتوهم لاتحاد الكلمة فيه وفيما قبله وليس كذلك لأن مسمى الأجل الذي فيه مطلق غير مقيد وهو فيما قبله مقيد بكونه الأجل الذي وقع البيع إليه والمنصوص لهم أن الاختلاف بهذا كاختلاف الألفاظ مع زيادة هذا بمزية التجنيس وذكره لدفع التشغيب بهذا عن الفقيه"، والغريب أن هذا النص لم يرد في كتاب أدب ولا شعر ولا من رأس خال من حفظ الفقه والتعليل كما هو المتبادر بل ورد في كتاب فقهي هو مختصر ابن عرفة المخطوط بمكتبة آل عاشور بالمرسى تونس ج: 3 اللوحة: 28. ومن فقيه ولغوي هو الإمام ابن عرفة تعليقا منه على الأبيات:
"إذا استقالك إنسان إلى أجل *** وزاد نقدا فخذه ثم لا تسل
حاشى من الثمن المرجى إلى أجل *** إلا إلى ذلك الميقات والأجل
مع الرقات فلا تردد فإن لها *** حكما من الصرف في التعجيل والأجل
وزده أنت من الأشياء أجمعها *** ما شئت نقدا ومضمونا إلى أجل
ما لم يكن صرف ما استرجعت تدفعه *** إلى زمان ولا باس على عجل"
بل لأنه: "يستخف البيت والبيتان والثلاثة...".
الدعاء لا يبطل الصلاة ما لم يكن شعرا:
وفي ذلك يقول الناظم:
لا تبطل الصلاة بالدعاء *** ما لم يكن شعرا بلا امتراء
ولعل هذا مما عزاه العلامة محمد مولود بن أحمد فال في الرحمة أو في شرح الكفاف لشرح الشيخ الخرشي على مختصر الإمام خليل فليراجع إنشاد الشعر في الطواف: ورد في الحديث أن الطواف بالبيت صلاة وجاء في التوضيح على مختصر ابن الحاجب للإمام خليل: م: 2، ص: 563 ـــ 564. في سياق حديثه عن الطواف والقراءة فيه "وهل تكره القراءة فيه أولا روايتان مذهب المدونة الكراهة... وإذا كرهت القراءة فالشعر أولى اللخمي: ولا ينشد في الطواف الشعر ويستخف البيت والبيتان والثلاثة إذا تضمن وعظا أو تحريضا على طاعة قاله في الجلاب".
ممن رغب عن الشعر من المالكية محمد بن أحمد اللؤلؤي:
جاء في ترجمة محمد بن أحمد اللؤلؤي في ترتيب المدارك أنه: "رغب عن الشعر، ونكب عنه إلى التبحر في علم الفقه والسنن" ترتيب المدارك، ج: 6، ص: 112.
أمثلة من طرائف المطارحات بين الشعرية بين المالكية.
هناك مطارحات كثيرة بين المالكية ينبغي أن تخصص لها دراسة.
ومنها: تجدات من تسهيل وتكميل شيخنا العلامة محمد سالم ابن عبد الودود لمتن سيدي خليل أستعريهما مما كنت كتبته عن المستجدات من نظم شيخنا محمد سالم ابن عدود من المختصر حكم أخذ الإمام ما يسمى "بالراتب" من "الأوقاف" أو خزينة الدولة فقد كنت كتبت فيها في:
"والأخذ من و قف وبيت المال *** حل ولم يرتضه الدكالي"
وشيخنا يشير إلى مشاعرة كان يستطرده في الدرس جرت في حدود التسعين والسبعمائة بين الشيخ الإمام ابن عرفة وبعض علماء مصر حين أنكر عليهم ابن عرفة تضييف أبي عبد الله محمد الدكالي الذي كان ينكر أخذ مرتب الإمام من الوقف أو بيت المال ولا يصلي خلف من يتقاضاه فكان أن بعث الإمام ابن عرفة بهذه الأبيات إلى الديار المصرية:
يا أهل مصر ومن في الحكم شاركهم *** تنبهوا لقبيح معضل نزلا
لزوم فسقكم أو فسق من زعمت *** أقواله أنه بالحق قد عملا
في تركه الجمع والجمعات خلفكم *** وشرط إيجاب حكم الكل قد حصلا
إن كان شأنكم التقوى فغيركم *** قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلا
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس *** فاحكم بحق وكن بالهدي معتدلا
فأجاب بعض المصريين:
ما كان من شيم الأبرار أن يسموا *** بالفسق شيخا على الخيرات قد جبلا
لا لا ولكن إذا ما أبصروا خللا *** كسوه من حسن تأويلاتهم خللا
أليس قد قال في المنهاج صاحبه *** يسوغ ذاك لمن قد يختشي زللا
كذا الفقيه أبو عمران سوغه *** لمن تخيل خوفا واختشى خللا
وقال فيه أبو بكر إذا ثبتت *** عدالة المرء فليترك وما عملا
وقد روينا عن ابن القاسم العتقي *** فيما اختصرنا كلاما أوضح السبلا
ما إن ترد شهادات لتاركها *** إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا
نعم وقد كان في الأعلين منزلة *** من جانب الجمع والجمعات فاعتزلا
كمالك غير مبد فيه معذرة *** إلى الممات ولم يثلم وما عذلا
هذا وإن الذي أبداه متضح *** أخذ الأئمة أجرا منعه نقلا
وهب بأنك راء حله نظرا *** فما اجتهادك أولى بالصواب ولا
وفي هذه القطعة روائع من أدب الاختلاف ما يحتاج المسلمون اليوم إلى إمعان النظر فيه.
وأصل هذه المشاعرة في نوازل البرزلي، ولا أدري هل أدرجها ابن عرفة في مختصره أم لا؟ وكنت بحثت عنه في تونس فلم أر في مكتبة آل عاشور إلا جزئيه الأخيرين، وفي المكتبة التونسية جزؤه الأول مطبوعا، ولم تتسن لي مطالعته لعدم العثور عليه قبل عزم السفر والقفول ولعل الذين منعوها قاسوها على الأذان وما رواه أبوداود والترمذي والنسائي في السنن واللفظ لأبي داود والترمذي عن عثمان بن أبي العاص قال: إن من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا والذين قالوا بجوازها اعتبروها رزقا ومعونة لا أجرة والله تعالى أعلم واستدلوا بأخذ السلف الأرزاق من بيت المال والأوقاف.
وهذا النوع من المشاعرات أو المطارحات الطريف والفقهي في آن يحتاج جمعا وتحقيقا ولا يبعد من هذه المشاعرة قول العبدوسي الذي كان يمنع الصلاة خلف الذي انحنى ظهره حتى صار كالقوس حين قال له بعض أبناء أشياخه وقد رآه الكبر أدركه وصار على تلك الحالة التي يمنع إمامة صاحبها "لا تنحني لا تنحني" يعرض بما تقدم من موقفه من مقوس الظهر وأنه يواخذ المكلفين بأمر قدري لا يد لهم فيه فأنشأ العبدوسي:
"يا سليل الكرام نفسي فداكا *** قلت لا تنحني وأنت كذاكا
خفض الظهر فاعل الدهر منا *** وسط حال عدمت عنها انفكاكا
ختم الله للجميع بخير *** إنه قادر على فعل ذاكا"
وقد طال العهد بهذه ا لمكالمة أو المطارحة وهي في حاشية البنان على الزرقاني عند الكلام على شروط الإمامة، وقد كان شيخنا يستطردها أيضا في تدريسه هذا المحل من خليل "وبعاجز عن ركن".
ولا يبعد منه ما وقع في بلاد شنقيط في أخبار الحبس، وقد جمع بعضه محمد الأمين بن محمد بيب في تحقيقه لنوازل العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم مع نظم الشيخين والله الموفق".
انتهى ما كنت جمعته في مقالي مستجدات من تسهيل وتكميل شيخنا لمرابط محمد سالم ابن عدود لمتن سيدي خليل.
حكم إنشاد الشعر في المسجد:
ويقول العلامة محمد مولود بن أحمد فال في نظم آداب المسجد:
"ولا تسل فيه سيفا لا ولا *** والخلف في إنشاد الأشعار جلا"
وقد نقل العلامة محمد الحسن هنا ما ورد في مواهب الجليل عن القرطبي: "فرع: قال القرطبي في شرح مسلم في قوله إن عمر مر بحسان ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه قال أي أومأ إليه بعينه أن اسكت وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد وكان قد بنى رحبة في خارج المسجد وقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا فليخرج إلى هذه الرحبة وقد اختلف في ذلك فمن مانع مطلقا ومن مجيز مطلقا والأولى التفصيل فما كان يقتضي الثناء على الله تعالى أو على رسوله أو الذب عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحث على الخير فهو حسن في المساجد وغيرها وما لم يكن كذلك لم يجز لأن الشعر لا يخلو في الغالب عن الكذب والفواحش والتزيين بالباطل ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ولقوله عليه السلام: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي للذكر والصلاة وقراءة القرآن" مواهب الجليل ط دار الرضوان م: 6 / ص: 221.
ونختم هذه العجالة بهذا الرأي للإمام ابن عرفة في الشعر عموما إذ يقول فيه في الوقف في سياق الكلام عن بعض ألفاظه:
"ولفظ أراملهم فيه الرجل الأرمل كالمرأة الأرملة.
قال الشاعر:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها *** فمن الحاجة هذا الأرمل الذكر
وأما الوصايا والأحباس على المتعارف بين الناس.
قلت: والبيت لجرير، في الاكتفاء لابن كردبوس جاءت طائفة من الشعراء فأقاموا بباب عمر بن عبد العزيز أياما لم يؤذن لهم حتى قدم عدي بن أرطأة، وكانت له مكانة فتعرض له جرير، فقال:
يأيها الرجل المزجي مطيته *** هذا زمانك إني قد خلا زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه *** أني لدى الباب كالمصفود في قرن
فاحلل صفادي فقد طال الثواء به *** وناءت الدار عن أهلي وعن وطني
فقال: نعم، أبا حزرة، فدخل على عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك، وأقوالهم باقية، وسهماهم مسمومة.
قال: يا عدى ما لي وللشعراء؟
قال: يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم مدح فأعطى، وفيه الأسوة لكل مسلم، مدحه عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه.
قال: وتروى قوله قال: نعم
رأيتك يا خير البرية كلها *** نشرت كتابا جاء بالحق معلما
سننت لنا فيه الهدى بعد جورنا *** عن الحق لما أصبح الحق مظلما
قال صدقت، فمن بالباب؟
قال له: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة.
قال: لا قرب الله قرابته، ولا حيا وجهه أليس هو القائل:
ألا ليت أني يوم تدونوا منيتي *** شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله *** وليت حنوطي من مشاشك والدم
وليت سليمى في القبور ضجيعتي *** هناك أو في جنة أو جهنم
والله لا دخل علي أبدا، فمن بالباب غيره؟
قال: جميل.
قال: هو القائل، فذكر من شعره نحو ما تقدم: لا دخل علي أبدا فمن بالباب غيره؟
فقال: كثير عزة، فذكر من شعره نحو ما تقدم، وقال: لا يدخل علي فمن بالباب غيرهم؟
قال: ذلك الأحوص الأنصاري، فذكر من شعره نحو ما تقدم،
وقال: لا يدخل علي، فمن بالباب غيرهم؟
قال: الفرزدق همام بن غالب فذكر من شعره نحو ما تقدم،
وقال: لا يدخل علي، فمن بالباب غيرهم؟
قال: الأخطل فذكر من شعره ما نسب فيه لنفسه فعل الكبائر.
وقال: لا وطئ لي بساطًا أبدًا، فمن بالباب؟
قال: جرير.
قال في شعره عفة فأذن له.
قال: فخرجت وأذنت له فلما مثل بين يديه.
قال له: اتق الله أبا حرزة، ولا تقل إلا حقا. فقال:
كم باليمامة من شعثاء أرملة *** ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفى بعد والده *** كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا *** من الخليفة ما نرجو من المطر
أتى الخلافة إذ كانت له قدرا *** كما أتى موسى ربه على قدر
هذي الأرمل قد قضيت حاجتها *** فمن الحاجة هذا الأرمل الذكر
وفي نسخة في البيت الثاني: "ممن يعدك تكفي فقد والده...".
فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم مائة أخذها ابني عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام، أعطه المائة الباقية، فقال: يا أمير المؤمنين، إنها لأحب مال كسبته إلي، وخرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟
فقال: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض، وأنشأ يقول:
رأيت ولي الشيطان لا يستفزه *** وقد كان شيطاني من الجن راقيا
قلت: قوله: "كما أتى ربه موسى على قدر" كان بعض شيوخنا الصلحاء يمنع هذا التشبيه، ويراه خلاف ما يجب من الأدب لمقام الأدب مع مقام النبوءة.
قلت: وفيه دليل على جواز حفظ الشعر المشتمل على نسبة قائله لنفسه ما لا يحل فعله ولو في الكبائر إذا كان فيه مصلحة من استشهاد به أو تجريح قائله وعزو ابن هارون بيت هذي الأرامل للحطئية، وهم تبع فيه ابن شاس".
راجع مختصر مخطوط عند أسرة لمرابط محمد سالم ابن المحبوبي الجزء قبل الأخير / ص: 352 ــــ 351.
وحاشية الرهوني على الزرقاني ط دار الفكر 1398 هــــ. م: 7 / ص: 167 ـــ 168. فقد وردت في المرجع الأخير زيادات على المخطوطة المتقدمة أهمها في أبيات عباس بن مرداس المتقدمة في مدح الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد وردت فيها هكذا:
رأيتك يا خير البرية كلها *** نشرت كتابا جاء بالحق معلما
سننت لنا فيه الهدى بعد جورنا *** عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدنسا *** وأطفأت بالإسلام نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا *** وكل امرئ يجزي بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه *** وقد كان قدما ركنه قد تهدما
ومن نص ابن عرفة هذا واستدلاله يتضح رأي المالكية في الشعر وفي أخص بالصاد أو بالسين أنواعه ما فيه نسبة قائله لنفسه بعض الكبائر وجواز إنشاده لمصلحة من استشهاد ونحوه.
وصفوة القول إن المالكية رغم ندرة الاستشهاد بالشعر في "مدونتهم" وجد منهم نظار كانوا على درجة كبيرة من العلم به وعندهم "يستخف البيت والبيتان والثلاثة..."، وقد استدلوا لجوازه عموما لمصلحة نحو الاستشهاد والله سبحانه الموفق إلى سبل الرشاد.