الحلقة الثانية:
دقة الإمام المازري في إيراد القواعد وتطبيقها في شرح التلقين وغيره:
تقدم قول عبد العزيز بن بزيزة عن شرح التلقين إنه "في الحقيقة كتاب مذهب لا كتاب شرح...) روضة المستبين مطبوع ج: 1، ص: 146.
ولا تخطئ عين الناظر في مؤلفات الإمام المازري دقته ولعله ذلك مما يعود لشمول نظره وتمكنه من ميزان أصول الفقه الدقيق وتمكنه في هذا الفن وقد لحظ العلامة الطاهر بن عاشور هذه الدقة والشمول حين قال معلقا على فتوى المازري في الزيت الذي تسقط فيه فأرة تتغير فيه ثم يغسل أن الصحيح على أصول المذهب طهارته "وإن كان المشهور نجاسته وهذا – هكذا في الأصل ولعل الأولى وهذه - من مسائل المازري التي خالف فيها المذهب لأنه مجتهد ولا ينافي ذلك تصريحه بالمشهور لأنه لما استفتاه مقلدو مذهب مالك ليخبرهم عن مذهبه وقد فعل ذلك ثم وفى بحق الله من الصدع بالحق عنده وفي جمع الجوامع مسألة يجوز للقادر على التفريع والترجيح وإن لم يكن مجتهدا الإفتاء بمذهب مجتهد اطلع على مأخذه وأعتقده...) من أمالي الإمام محمد الطاهر بن عاشور على مختصر خليل الكراس: 1 / ص: 32.
قلت ولا قول لي في هذا الكلام بيان مراعاة المازري لاختيار المستفتي ومقصده. راجع بحثي الاختلافات الأصولية النقلية م، س / ص: 75. وهذا من بديع منهج هذا الإمام في الفتوى.
ومن مظاهر دقة الإمام المازري في إيراد القواعد وتطبيقاتها صنيعه في الكلام على العموم الخارج على سبب ونوع هذا الاختلاف وطريقته في تبيينه: فمن العلماء الذين ركزوا على هذه القاعدة الإمام المازري الذي يظهر من صنيعه في الواقع التطبيقي أيضا الاستئناس بهذا الدليل جريا على هذا الاختلاف، مثل ما سيأتي عنه في شرح التلقين، وقد حكى المازري هذا القول عن أبي الفرج فقال ناعتا له بالشذوذ: "وشذ بعض أصحابنا وهو أبو الفرج، فقال بقصره على سببه ورده عن دلالته على العموم." إيضاح المحصول، ص: 290.
فقد كان المازري وفيا لمبدئه من وصف القول بقصر العام على سببه بالشذوذ في تطبيقه، فهناك مواضع من شرح التلقين للمازري، طبعة دار الغرب الإسلامي في ج: 8، ص: 297. وفي ج: 5، ص: 699، وج: 7، ص: 175.
تشهد طريقته فيها أن هذا الخلاف هنا ليس حقيقيا كما سيأتي عن العلامة الطاهر بن عاشور، في حاشية التوضيح والتصحيح، ج: 1 / ص: 253 - 254. أو أنه ضعيف، إذ لم يكتف الإمام المازري فيها بالاستدلال بتخصيص العموم الوارد على سبب في تلك المواضع. بل غالبا ما يذكر معه قاعدة أخرى، ويبني عليها الخلاف ولا يعتمد عليه وحده، وذلك ما يقتضيه صنيعه في المعلم ج: 2 / ص: 102. في شرحه لسبب نزول آية {نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أني شئتم} وأن جابر ابن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: "إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها كان الولد أحول"، فنزلت هذه الآية نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أني شئتم" "قال الشيخ وفقه الله: اختلف الناس في وطء النساء في أدبارهن، هل ذلك حرام أم لا؟ إلا أنه ذكر في شرح التلقين عند كلامه على تفسير قول الله عز وجل: "فأينما تولوا فثم وجه الله" ونقله لمذهب من قال إن هذه الآية واردة فيمن خفيت عليه القبلة، أن صاحب هذا القول قصر العموم الوارد في الآية على هذا السبب الذي رآه واردا عليه، وبين أهل الأصول اختلاف في العموم، إذا خرج على سبب هل يقصر عليه أو يتعدى سببه؟ فإن قلنا بقصره على سببه، وصح نزولها على السبب الذي زعموه، صح ما ذهبوا إليه". شرح التلقين ج: 2 / ص: 484.
ولكن المازري علق على هذا الإجراء، على هذه القاعدة بأنه خلاف ما يقتضه عموم هذه الآية فقال: "وهذا كله مع العلم بأن الآية حكمية وليست على ما يقتضيه ظاهرها من كونها خبرية ". المصدر نفسه ج: 2 / 485.
"فمما يمكن أن يستنتج من هذا الاستقراء من شرح التلقين كون المازري يرى أن هذا الخلاف شبه لفظي، لما صرح به هو من شذوذ، من قال به وإن كان مالكيا وهو أبو الفرج، إذ لم يشفع له تعبير المازري عنه بأنه من "أصحابنا"، حتى يسلم من الوصف بالشذوذ وهذا من صور ما يسميه صاحب الأدلة العقلية مظاهر توسع في المذهب المالكي. وقد يكون كل هذا مما دفع العلامة الطاهر بن عاشور وهو المولع بآراء المازري إلى أن يقول: "لعل الروايتين اختلاف في حال، ففي كلام الشارع يحمل على العموم، ولا يخص سببه؛ لأن المقام مقام تشريع، ولا خصوصية للسبب إلا من حيث كونه الموجب لورود الخطاب، فلا يخص عموم اللفظ. وأما في كلام الناس وعقودهم ومعاملتهم فلا يحمل العموم إن ورد على سبب خاص إلا ما يتعلق بالغرض المسوق إليه" راجع لكل هذا بحثي الاختلافات الأصولية النقلية وأثرها في الفرع عند المالكية ص: 286 - 285 – 284.
من نصوص وأقوال الإمام المازري التي اضطرب فيها العزو إليه:
من ذلك ما ورد في كتاب القواعد السنية في شرح الألفية للعلامة الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي الذي يقول في سياق كلامه عن المنهي عنه لأمر خارج غير لازم وحكايته الخلاف فيه وبعد قوله: "وقد حكي في الخلاف أقوال سوى ما سبق "… ومنها ما ذكر المازري في شرح البرهان عن شيخه والظاهر أنه أبو الحسن اللخمي التفصيل – هكذا في الأصل ولعل الأوضح من التفصيل – بين ما النهي عنه لحق الخلق فلا يقتضي الفساد أو لحق الله تعالى فيقتضيه ...) هكذا ورد في القواعد السنية تحقيق عبد الله رمضان ط مكتبة التوعية الإسلامية ج: 3، ص: 1257. ولم ينتبه محققه إلى ما فيه وأن الذي أراده الإمام المازري هنا بالشيخ ليس شيخه اللخمي وإنما هو شيخه عبد الحميد الصائغ فذلك مما يتضح بالرجوع إلى كلام المازري في المعلم وقوله في سياق حديثه عن التصرية وشرحه لحديث لا تصروا الإبل والغنم وأما التصرية فإن النهي عنها أيضا لحق الغير وقد كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد يجعلها أصلا في أن النهي إذا كان لحق الغير لا يوجب فساد البيع لأن الأمة أجمعت على تحريم الغش في البيع ووقع النهي عنه هاهنا ثم خيره صلى الله عليه وسلم في أن يتماسك بالبيع والفاسد لا يصح التماسك به..." والله تعالى أعلم.
ومن نصوص الإمام المازري التي نسبت إليه وليست له فيما يبدو هذا النص الذي جلبه العلامة الطاهر بن عاشور ونسبه للمازري مع أنه ليس في أماليه المطبوعة تحت عنوان "إيضاح المحصول" بل الغالب على الظن أنه في نسخة من التحقيق والبيان تختلف قليلا وتزيد على المحقق منه بجامعة أم القرى كلية الشريعة، والدراسات الإسلامية، قسم الدراسات العليا الشرعية، فرع الفقه والأصول، تحقيق ودراسة الطالب: علي بن عبد الرحمن بسام - العام الدراسي: 1409 هــ وعن نسخة مرقونة مصححة على مخطوطة أخرى منه متداولة بالمغرب أتحفني بها أستاذي إسماعيل شكري، حيث يقول الطاهر في سياق تساؤله عن الأصول هل هي قطعية أم لا؟
"فإن قيل تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به "ثم يضيف الإمام الطاهر بعد وصفه هذا الاعتذار بـ"أنه واه؛ لأنا لم نرهم دونوا في أصول الفقه أصولا قواطع يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها كما فعلوا في أصول الدين بل لم نجد القواطع إلا نادرة مثل ذكر الكليات الضرورية حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض وما عدى ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة وقد استشعر الإمام أبو عبد الله المازري ذلك فقال عند شرحه قول إمام الحرمين في البرهان وأقسامها "أي أدلة الأحكام" هذه الجملة زيادة من نقل الطاهر على ما في التحقيق والبيان ج: 1 ص: 139. الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع: "اختلفت عبارات الأصوليين في هذا فمنهم من لا يقيد هذا التقييد "أي قيد كلمة نص" زيادة من نقل الطاهر على ما في التحقيق والبيان ج: 1، ص: 139. ويذكر الكتاب والسنة أي يقتصر على هاتين الكلمتين ولا يذكر كلمة نص زيادة من نقل الطاهر على ما في التحقيق والبيان ج: 1، ص: 139. "والإجماع فإذا قيل لهم فالظواهر وأخبار الآحاد يقولون: إنما أردنا بذلك ما تحقق اشتمال الكتاب عليه ولم نتحقق اشتمال الكتاب على الصورة المعينة من صور العموم، وكذلك يقولون في أخبار الآحاد لم نتحقق كونها سنة ومنهم من يقيد لإزالة هذا اللبس ومنهم من يقول ما دل على الحكم ولو على وجه مظنون هكذا في نقل الطاهر وورد في التحقيق والبيان: "ولو بوجه مظنون" فهو دليل فهذا لا يفتقر إلى التقييد" راجع التحقيق والبيان - رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه بجامعة أم القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، قسم الدراسات العليا الشرعية، فرع الفقه والأصول، تحقيق ودراسة الطالب: علي بن عبد الرحمن بسام - العام الدراسي: 1409 هــ . ج: 1، ص: 38 – 39، ومقاصد الشريعة م، س، ص: 168 ــ 169.
ولم يعرج محقق إيضاح المحصول أو أمالي المازري على البرهان على هذا النقل خاصة ولم يوضح لنا هل هو مما ليس في المخطوطة التي طالع إذ قد يكون أصابها خرم بعد الإمام الطاهر، ولعل هذا النص ليس من أمالي المازري على البرهان كما تبين لي من مطالعتها ومقارنتها بالتحقيق والبيان للأبياري بل من التحقيق والبيان ففيه نص يضاهي مضمونه مع اختلاف طفيف في الألفاظ وزيادة من نقل الإمام ابن عاشور.
وقد نبه محقق إيضاح المحصول أو أمالي المازري على البرهان على أن شيخ شيوخنا ابن عاشور كان يلتبس عليه التحقيق والبيان بأمالي المازري وأنه كان يراها أمالي أخرى للمازري "وإن كان محقق إيضاح المحصول لم يضع الهناء على الجرب ولم يخصص هذا النص بالذكر وينبه على ما وقع لشيخ مشائخنا هنا أو يحيل عليه أو يدرجه في نص إيضاح المحصول إن كان يراه منه أو يضعه في الملحق إذا كان يعتقد كونه للمازري فقد أتى بنصوص في الملحق نقلها عن الزركشي كان عزاها هو الآخر للمازري فهذا النص أولى بذلك لأنه من صميم بحثه المضاف إليه. والله الموفق.
ولا يبعد من هذا النص من شرح التلقين الذي أورده الحطاب في مواهب الجليل وليس في شرح التلقين المطبوع الآن فيما يبدو ولعل ذلك يعود لكونه مما لم يعثر عليه: ما نقله الحطاب في مواهب الجليل عن الإمام المازري من قوله في شرح التلقين في سياق حديثة عن الأضحية والشركة فيها "وإذا أشرك زوجته في الدم المراق جاز ولا يخرج هذا ما اشترطناه في الشروط الثلاثة من مراعاة القرابة فإن الزوجة وإن لم تكن من القرابة فإن هناك من المودة والرحمة ما جعله الله سبحانه يقوم مقام القرابة...".
وبهذا تنتهي هذه الحلقة من تحقيقات من كتب وأخبار الإمام المازري وخاصة شرح التلقين، جعلنا الله وإياكم ممن يلقن حجته ويغنم في أوائل الفائزين.