الحلقة الثانية والأخيرة
كلمة للإصلاح ما زالت تتبع خصائص الإنفاق في سبيل الله في رمضان، ونتيجة لهذا التتبع فقد ظهر أن خصائص الإنفاق في سبيل الله يصعب تتبعها في القرآن وحده ولا سيما إذا أضفنا له ما جاء في الوحي الثاني خارج دفتي المصحف وهو ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على هذا الإنفاق ـ وما صدر منه هو شخصيا صلى الله عليه وسلم من هذا النوع وهو الإنفاق في سبيل الله.
ولكن قبل ذكر بعض ذلك كله ـ أورد آية وردت في طلب هذا الإنفاق كان من حقها أن تكون هي العنوان لهذه الكلمة لولا الخوف على قلب المؤمن أن يتزلزل من وقعها على قلبه عندما يصطدم بهذا العنوان لهذه الكلمة أي بمعناها وجرسها في بداية قراءة كلمة الإصلاح ألا وهي أن الله نفسه هو الذي تولى طلب الفرض من عباده الذين أغناهم من فضله ليقرضوا لله هذا المال الذي أعطاهم بطلب إعطاء جزء منه ولو بسيطا لعباده الآخرين المكتوب في لوحه المحفوظ أن جعلهم من السائلين أو المحرومين ولكنه في نفس الوقت مع جعلهم هذا من السائلين والمحرمون جعل لهم حقا معلوما في الأموال الذي يعطيها لعباده الآخرين.
يقول تعالى مخاطبا عباده جميعا بلفظ "من" التي هي خطاب عام لكل عاقل {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون}.
ونلاحظ هنا في هذه الآية عدة وقفات جدير بمن يؤمن إيمانا راسخا بأنه سيقف أمام الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم إلى آخر ذلك الحديث فحق لمن يؤمن هذا الإيمان أن يقف وقفة تـأمل عند لفظ بعض كلمات الآية:
أولا: هذا الطالب لهذا القرض هو الذي أنزل في محكم كتابه قوله تعلى {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}.
ثانيا: يقول عن الإنسان {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قـتورا} ففي هذه الآية تنويه بالتحذير من عدم الإنفاق خشية نفاذ المال مع أن المنفق منه خزائن الله ولكن المنفق منها هنا هو الإنسان.
ثالثا: يقول المولى عز وجل هنا أن قضاء هذا القرض الذي أقرضه الإنسان لربه سيكون مضاعفا ولا خوف هنا من الربا في القرض لأن ذلك الربا لا يقع إلا في القرض الذي بين الإنسان والإنسان والذي حرمه الله لئلا يكون جزاء المقرض ينحصر في زيادة قرضه ويتضاعف على المقرض له بسبب حاجته الحالية للقرض: هذه الصورة هي المنصوصة بعينها في قوله تعالى {وما آتيتم من ربا لتربو في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} بمعنى أن الذي يضاعف له قرضه عند قضائه من الله هم الذين قدموا هذا القرض لوجه الله ونفس هذا المعنى عنده جزاء آخر في آية أخرى لا يمكن أن تشبه إلا بما جاء في الآية التي قال فيها الله جل جلاله مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى} إلى قوله تعالى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} فكذاك قال في شأن هذا المنفق لوجه الله فقط {وسيجنبها الأتقى الذي يوتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} وما يناسب كل مقام لا يعرفه إلا الله.
هذه الآية أعلاه أي قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} فيها وقفة أخرى عند قوله تعالى {قرضا حسنا} بمعنى أن القرض الحسن لا يكون إلا من مال طيب حصل من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب لأن الله يقول للمنفقين غير الطيبين {مثـل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصلبت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.
وعلى رأس الإنفاق غير الطيب للمال إعطاء المال طلبا للأجر ولكن المعطى له خارج أوصاف من وصفهم الله للمنفقين بأن يكون إنفاقهم على هذه الأوصاف وهو الفقر أو المسكنة أو الفقر العارض مثـل المسافرين أو العاملين على تحصيل الصدقات الواجبة أو التطوعية الخ وليس وصف الدين أو التدين معدودا من المستحقين لأخذ المال المقروض لله المضمون إرجاع قرضه من الله عندما يستوفي شروط هذا الإنفاق من الحسن وهو إخلاص النية به لله وإعطائه لمصرفه فقط لقوله تعالى
{أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه} والوعد الحسن هنا قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة}.
أما الهدية فإن اكتساب المال للوصف بها يكون على نوعين: مال يسمى هدية ولا يجوز إطلاق الصدقة عليه وهو المال المهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أو المال المعطى لآله صلى الله عليه وسلم وتفصيل ذلك مكانه في كتب الفقه ولا يعنى عموم الفقراء الذي تشملهم كلمة {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} الخ الآية.
أما النوع الآخر فهي هدية الثواب والثواب هنا متعلق بلفظ الهدية الموصوف به هذه الهدية وهو الثواب من المهدى له لا من الله، ولذا فالشريعة تأذن لمن أهدى إلى شخص ظنا منه أنه سيبادله الهدية فإذا لم يفعل فيحق للمهدي أن يطلب من المهدى له الذي لم يقم بمثـلها أن يرد له هديته.
أما الهدية التي أصطلح أنها تقدم لشخص لأجل دينه أو تدينه أو اعتقاد الفضل فيه ومع ذلك هو غني: إما غني أصلا من الكسب أو غني من أي دواع أخرى فليس معنيا بهذا القرض الداخل تحت كلمة "من" وما بعدها في الآية ــ ولذا فلا يقول أي عالم أو فقيه بأن أمثال هؤلاء تسقط الزكاة الواجبة بإعطائها لهم عن من لزمته الزكاة في ماله، فعلى المسلمين أن ينتبهوا لذلك قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
وباختصار في شأن دلالة هذه الآية وما يؤخذ من فحواها ــ فعلى المؤمن أن يبادر إلى إقراض الله قرضا حسنا وفي قلبه أنه سيرده له في ساعة يقول فيها تعالى {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثـله معه لافتدوا به}.
أما الأحاديث التي تأمر بعموم الإنفاق فهي أكثر من الحصر ولكن سأكتب منها نموذجا يكون اعتباره وتنفيذه امتثالا لقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر}.
ومن خصائص أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن من قرأها يستفيد من بلاغتها وعمق ألفاظها يقول صلى الله عليه وسلم: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله فأجابوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه فقال لهم رسول الله صلى عليه وسلم: إن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر"، ومن هذا القبيل ما أورده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث تسمع المنفق مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم ما يرد عليه في الحين ماله الذي أنفق فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تـلفا".
وأخيرا، أختم هاتين الحلقتين بهذه الآيات الواردة في الإنفاق في سبيل الله وكل واحدة منها تستحق أن يعطى المسلم جميع ما يملك من شدة وقعها على قـلب المسلم يقول تعالى {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} ويقول تعالى {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم}.