كلمة الإصلاح اختارت هذا العنوان التاريخي لتوضح فيه للموريتانيين الحاليين متى ضاعت موريتانيا وغابت عن كل قادم ــ تنميتها بعد حرب الصحراء التي كانت قاصمة الظهر لشباب ميلاد موريتانيا عندما قيض الله لميلادها عند الاستقلال رجالا لا كالرجال أبطالا كأنهم جميعا خلقوا ـ كما يشاءون ـ عزة وإباء وأخلاقا ومروءة لا يرون أنفسهم إلا كأجراء أمناء على هذا الشعب كله كما خلقه الله ـ أبيض أسود وبأي لغة يتكلم ـ فأنبتوا موريتانيا نباتا حسنا وسقوها سقاية مستمرة بماء الأخلاق العالية والعفاف المتأصل ونكران الذات المقصود هدفا.
ومن هنا أود من الموريتانيين المخضرمين الذين ـ ما زال منهم حيا ـ أن يشهدوا معي لنؤدي جميعا تلك الشهادة أمام الله على ما نعرفه وشاهده الموجودون من الشعب آنذاك من حسن تلك السيرة الذاتية لأولئك الرجال الممثلين للجبال الراسخات في الحضور والتأني وتحمل المسؤولية لأدائها كما أمرهم الله، والآن سنذكر نماذجا من أولئك الأسماء وما أدوه لوطنهم من الخدمة الممتازة لا يريدون بها تملقا ولا تصفيقا ولا إشادة من مدنيين أراد الله أن يخلفهم للزمن العسكري تفـننا في تصفيقا منقطع النظير في التزلف والتملق وبيع الضمائر والإلحاح في دفع الثمن المادي من أولئك العسكريين العمالق في مهنتهم الأميين في إدارة دولة الفقراء حتى ظنوا أن إشادة المدنيين بأعمالهم وتملقهم لهم يكفي في تنمية الدولة الموريتانية.
فأينا نحن الموريتانيين لا يتذكر ميلاد موريتانيا تحت خيمة في غابة من (افرنان) ولم تكتمل لها سنة واحدة ـ حتى أصبح قائدها المرحوم المختار بن داداه عملاق القارة الإفريقية يكفي ظهوره أمام المجتمع وأمام الدول بأريحيته المعروفة وأخلاقه وخلقه الموهوبة من الله كل ذلك يعد تنمية للدولة وكتنمية لمواطنيها في قلوب الآخرين حيث ما حلو وارتحلوا ولم يمر على موريتانيا سبع سنوات على استقلالها حتى أصبح رئيسها آنذاك سفيرا للعرب ـ وموريتانيا لها في الجامعة العربية آنذاك أربع سنوات فقط حيث قام ذلك الرجل بجولة في إفريقيا لتقطع جميعها علاقتها بإسراءيل بعد هزيمة الدول العربية التي جعلوا الهزيمة هي مسكنهم المفضل حتى اليوم لركاكة تفكيرهم وانحطاطه ونزوله إلى ما يشبه البهائم فمن نظر إلى ما يعذبونه ويقـتـلونه يوميا من شعوبهم ويستمع إلى إذاعاتهم لا وظيفة لها إلا الشتم واستـنتاج مفكريهم لأحقر كلمة وأسفلها يتبارون في التبادل بينهم بالشتائم.
وقد ذكرتني شمول سفارة المرحوم السيد / المختار بن داداه لجميع الدول العربية عندما سمعت أن (ترامب) مصر السيسي قد أرسل للسيد / الرئيس غزواني لزيارته، ولا شك أنه يريده سفيرا بينه وبين رئيس أثيوبيا في قضية سد النهضة تلك القضية القاتـلة من الوريد إلى الوريد لجميع شعب مصر إذا تم بناء السد، وتلك عقوبة إلهية لمن لا يلتفت إلى أوامر الله ويمكر بشعبه يمينا وشمالا.
وهذه الرسالة من السيسي إلى غزواني ذكرتني بأسوأ تركة دنيوية تركها ذلك الرئيس المنصرف لزميله ورفيق دربه في الدنيا ــ والذي نرجو لهما من الله أن لا يكونا أعداء يوم القيامة كما قال تعالى للأخلاء غير المتـقين {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.
فمن آثار تلك التركة الكارثية الذي ترك ذلك المنصرف موقف موريتانيا من دخول تركيا لشمال سوريا حيث قالت إنها قلقة لذلك الغزو كما قالت ولم تكن قلقة أو جامدة الدم وهي ترى المجرمين الروس يتصرفون كما يتصرف المالك في ملكه في مكان أرقى حضارة وأكثرها ثقافة وشرحا للصدور في التاريخ العربي ويكفي أنها دار الخلافة الأموية والعباسية المحسوبـتين وحدهما على العرب بحيويتهما وثقافتهما وازدهارهما وتركيزهما على أصلهم العربي المحمود مزاياه ومفاخره وحرصه على ذكر المآثر الطيبة والمواقف الشجاعة التي جعلهم الله بها وعاء آخر رسالة من السماء إلى الأرض الخ.
وبعد شرود القلم نعود إلى ذكر عمالقة موريتانيا الفتية التي أدخلوها التاريخ وكأنها حضارة إغريقية ضاربة في أعماق التاريخ.
فـنـتذكر أولئك الرجال منهم: أحمد بن محمد صالح أطال الله عمره عندما كان وزيرا للسيادة منها الداخلية وفعلا كان رجلا يستطيع رعاية الداخل من جميع جوانبه فجعل الداخل ولو من غير آلة مواصلات كما هو اليوم كأنها بين يديه كل يوم ـ فلا يتعشى وال ولا حاكم خارج منزله إلا علم بها وعلم لماذا؟ فضلا أن يكون المواطنون تقسمهم الآن السكاكين كل يوم في بيوتهم ولا أحد يذكرهم بأمن ولا رعاية ولا توجع كما نذكر من أولئك جبال التاريخ الأمناء على الأمانة والمروءة وزير الخارجية حمد بن مكناس رحمه الله حيث كانت جولاته في الدولة كأنه دولة تـنـتـقل بين الدول من صدق الوعد والعزيمة ولم ترده أي دولة واحدة غير محقق لمهمته فيها وعندما كان في جولته يطلب فيها المساعدة من أجل الحرب، رجع إلى موريتانيا وهو حامل من المساعدة ما يغني الدولة عدة أعوام فسلمه بوعائه ورباطه إلى الانقـلابيين فساقوه بعد ذلك راضيا إلى السجن لعدم ما يخجل نفسه من هذا التصرف.
وكذلك نذكر العملاق الكبير صل عبد العزيز رحمه الله الذي كان أمينا عاما لحزب الشعب وقد اشتغل قبل ذلك في ولاية انشيري وغادر مسؤوليته إلى الحزب فكان أهل انشيري يتوافدون إلى نواكشوط ويجعلونه مكان نزلهم وكان يعرف ضعفاءهم أكثر من ما يعرف أغنياءهم بمعنى كان أمينا عاما لموريتانيا كلها أبيضها وأسودها وكذلك العملاق كمرا صيد بوبو وزير الوظيفة العمومية التي جعل عليها سياجا لا يدخلها برشوة ولا معرفة ولا زمالة ولا انتماء لحزب أي مزور بل من استحق دخولها فيجدها مفتوحة له بسهولة.
وكانت المعارضة أيضا آنذاك في يد رجال موريتانيين بالوطنية الراسخة من أمثال بياك بن عابدين الذي كان لا يحل بمكان من موريتانيا إلا وكأنها جاءها رئيس جديد لإخلاصه في معارضته ولأنها للبحث عن مصلحة موريتانيا فقط.
وفي آخر الستينات عندما تخرج شباب جدد أطعمت بهم الدولة فورا وجاء وكما تريد الدولة خبراء في مهنتهم نزهاء في تصرفهم حلوة شمائلهم مثـل سيد بن الشيخ عبد الله وأحمد بن سيد باب ومحمذ بن باباه وغير ذلك من رجال ذلك العهد ونرجو ممن لم يسع المقام ذكرهم أن يعذروني مؤكدا أن ذلك العهد لم يوظف فيه أي أحد نتيجة ثقافة مسلوبة الفكر ولا تملق ولا كثرة أصواته ولا لما يعرف من الحيل الملتوية للوظائف.
هذه الكوكبة من الرجال الأعفاء عن مال الدولة الصادقين في مواعيدهم المتميزين في علاقاتهم مع غيرهم كانوا عازمين ويحملون أوصاف هذه القدرة على تنمية موريتانيا في أقرب الآجال مع أنهم بدأوا ميزانية الدولة بخمس ملايـير فقط من الافرنك الإفريقي، إلا أنهم في آخر السنوات ضاعفوا الموظفين في موريتانيا فأصبح كل حاكم معه رئيس فرع من الحزب براتب كراتب الحاكم والفدرالي للحزب في كل ولاية يتقاضي راتبا مثـل الوالي وكذلك ممثـل الشباب والنساء بمعنى أنهم ضاعفوا الموظفين الرسميين وبدأوا في بناء الأحياء لموظفي الدولة مثـل: حي الشرطة ـ وابلوكات ـ وحي الجمارك وعندما تم تأميم "ميفرما" وأنشئت العملة كقوة اقتصاد الدولة جاءت العملة وكأنها من الفولاذ تسابق الدولار والجنيه والأفرنك الفرنسي، وبدأ التفكير في جميع أنواع التنمية مثل المنشآت الإنتاجية مثل: مشروع السكر وأسست سونمكس لضبط الأسعار من أجل الفقراء.
وفي ذلك الوقت التعليم مجانا والدواء مجانا وجميع الفقراء مفتوحة لهم ضمانات فكل من أتي بشهادة فقر فإن صندوق الضمان الاجتماعي يتكلف بجميع عملياته.
وبينما كانت قافلة التنمية يقودها رجال خريتون أمناء ملآ عزا وعفة ومروءة جاء قدر الله بحرب الصحراء ونقول في شأنها هذه الكلمة الموجزة فتلك الحرب دخلها المرحوم المختار بن داداه الحكيم في فكره المتأني في فعله إلا أن وجود شمال سكان موريتانيا كانوا تحت إسبانيا فذلك لا يجعلهم دولة وحدهم دون الموريتانيين الشناقطة الآخرين، فالمغرب شماله وسيد آفني كانوا تحت إسبانيا والباقي تحت فرنسا وبذلك اشترك مع المغرب في إبعاد المستعمر من الصحراء وهو يعلم أنه عندما يطول الزمن لا بد أن تـتحد الشناقطة فيما بينها ولكن تدخلت قوة عظمى لأن الله حكم أزليا على المواطنين الصحراويين أن يقضوا ستين سنة والحبل على الجرار وهم يسكنون ويسمون اللاجئين، وأنا أتيقن عندما وصلت القضية إلى ما وصلت إليه فإن المرحوم المختار كان له ضلع في الانقلاب عليه لئلا يكثر إراقه الدم بسببه وحسنا فعل.
وبعد تلك الحرب ووصول العسكريين توقفت التنمية نهائيا وبدأ الحكام الجدد يبحثون عن كيفية يدوم بها حكمهم، ومن المؤسف أنهم لجأوا في ذلك إلى المدنيين واشتراك العسكري والمدني في الآراء ينتج (بغـلا) من الآراء.
فالمدني يظن أن قوة العسكري ونشاطه يكفيان لوجود المقترح والعسكري يظن أن ثقافة المدني وحرية أفكاره لا ينتجان إلا ما فيه الصواب فيتحصل من ذلك آراء الأغراض وإنتاجها من غير أي دراسة مع مراعاة ما في نفس العسكري من الاتجاه.
وعلى كل حال فإن الكارثة التي أصابت تنمية موريتانيا وقـتـلتها في المهد وجعلتنا فقراء حياة وصفه وأغنياء أرضا وخيرات بلا رجال يفكرون في عموم التنمية هي إزدواجية الحكم العسكري وعملهم بتملق المدنيين.
فقد ابتـلى الله هذا الشعب بفيالق من المدنيين من كل الأجناس مثـقفين وشعراء وأدباء وفلاسفة ودكاترة ووجهاء قبائل وزعماء شرائح الخ كل هذه الأوصاف أصبحت لا تـتـنافس إلا على شدة الولاء للعسكري ومن يرد ولاءها منهم فالجهود تبذل لذلك حتى يتحقق.
والحقيقة أن حكم العسكري ليس سيئا لذاته بمعنى أنه لا يوصف تـلقائيا بالكارثة والمصيبة إلا إذا أخلق هو به كارثة وأصبح هو يطبق الحكم العسكري بمعنى أنه كل فكر في أي قضية فيتذكر هو عسكريته وينفذها ولو بقطع الجماجم.
ونحن في موريتانيا بدأ الحكم العسكري فينا بثلاث عسكريين رزقهم الله من الخوف منه ما جعلهم يكتـفون بآراء من حولهم من المدنيين لئلا تختلط عليهم الأمور وتبقي عليهم المسؤولية الأخروية.
وعندما جاءت تلك الأحداث غير المرحب بها ولكن يتحملها عاملان: أولا عامل من فكر في الانقلاب الأسود المخطط له أصلا تخطيطا جهنميا، وثانيا من حمله شنآن القوم على غير العدالة في الحكم على الانقلابيين حتى شمل معهم البرآء من جنسهم.
وبدأت من هناك الديمقراطية الفوضوية العسكرية التي اغتـنمها المدنيون المثـقفون ومن تبعهم وأصبح التحزلق والتملق هم التنمية الموريتانية، وبلغ ذلك ذروته في عهد الرئيس السابق حيث حيد مهمة وزارة الداخلية وإدارتها الإقليمية واكتفي بنفسه والدرك في تأمين المواطنين ووقع في زمنه ما وقع من انهيار أمني وإشاعة الخوف، واختار بعض من الوزراء يعرف تصفيق المصفقين حتى انتهينا إلى ما يلي:
شعب فقير إلى النخاع وكاد أن يعم التملق جميع مثقفيه والتنمية الإنتاجية صفر إلا ما يوجد منها في الأبواق وانتخابات يسمي بعضه نفسه بالأغلبية والله يعلم كيف حصلت تـلك التسمية.
وبما أننا عندنا الآن حاكم والفراسة تـقول إنه لا يريد ما يريده سلفه من كثرة المال والسلطة بأي ثمن فعسى الله أن يفتح على موريتانيا به ويأتي الله {بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم}.