كلمة الإصلاح ارتأت هذه المرة أن تقوم بزيارة لوزارة الداخلية لتقف عند رأسها وتخاطبها: السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستاخرين.
فهذه الوزارة من المعلوم أنها كان في موريتانيا وفي جميع الدول وزيرها هو الشخص الثاني في الدولة، وهذه الزيارة بدايتها لم تكن من اليوم ولكنها بدأت من اليوم الموالي لنهاية حرب الصحراء إلا أن الحاجة لهذه الزيارة استمرت حتى يومنا هذا 28/10/2019 وما زال الحبل على الجرار كما يقال.
فمن عايش موريتانيا قبل حرب الصحراء يدرك أن هذه الزيارة تأخرت عن وقتها وأن فعلها مطالب به الآن.
فالجميع يدرك أن دستور هذه البلاد ودستور كل بلد يحمل رئيس الدولة المسؤولية عن كل خلل يقع في هذه الميادين في الدولة ـ الميدان السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي وكل من هذه الميادين تحته فروعه التي لا بد من رعايتها رعاية مباشرة.
وعلى رأس هذه الميادين الميدان الجامع لها ألا وهو الاستقرار الأمني ونشر الهدوء والسكينة في جميع ميادين الدولة المذكورة أعلاه.
وكما هو معلوم فإن الرئيس شخص واحد جالس في مكتبه في العاصمة، ولكن القوانين الإدارية المفسرة للقانون الدستوري نصت على شخص واحد وقالت إن كل المسؤولية التي حملها الدستور للرئيس تحملها تلك القوانين لوزير الداخلية كما وكيفا وصلاحية على جميع التراب الوطني.
وبما أن وزير الداخلية شخص واحد وسعت له تلك القوانين جميع صلاحياته حتى جعلت كل شبر من الوطن يقع تحت سلطته وأعطاه القانون من الصلاحيات على كل مواطن مدني أو عسكري تابع لمصلحة أخرى أو عاطل عن العمل الجميع يتصرف فيه ذلك النائب عن وزير الداخلية النائب بدوره عن رئيس الجمهورية.
وفي نفس الوقت قامت تلك السلطة بتقطيع أرض الوطن إلى أجزاء ترابية في السلطة إلا أن الجميع ينوب عن رئيس الجمهورية نيابة مباشرة تحت هذا التسلسل السلطوي الإداري، ولكنه كما قلت يعم كل شيء من الأحياء والأموات والإنسان والبهائم كل هذا تتحكم في مصلحته تلك السلطة الوحيدة التي تنوب عن الرئيس إداريا.
إلا أنه مع الأسف بعد انتهاء حرب الصحراء ووصول الإدارة العسكرية الجديدة قفزت سلطة وزارة الداخلية خطوة إلى الوراء، وأصبحت هناك لجنة عسكرية عضوها سواء في العاصمة أو في الولايات يخضع له النائب عن وزير الداخلية بدون تغيير دستور أو قانون تشريعي لهذا الغرض حتى أصبح في ذلك الوقت إذا كان وزير الداخلية مدنيا فهو من جهة التشريع تحت سلطة المدير العام للأمن وقائدي أركان الدرك والحرس.
وقبل أن أبتعد عن بداية توضيح القـتـل البطيء لوزارة الداخلية أذكر أنه قبل حرب الصحراء وفي كل دولة ــ فصلاحياتها العامة في النيابة عن رئيس الدولة أعطت لها القوانين الإدارية ثلاثة أنواع من القوة العمومية، وكلها محددة مهمتها بالقوانين التشريعية التي تـتـبع في القوة مباشرة ـ ما هو منصوص عليه في الدستور.
ومن هنا يفرض هذا السؤال نفسه: هل هذه القوة ما زالت بعد نهاية حرب الصحراء وتأخر السلطة التابعة لوزارة الداخلية خطوات إلى الوراء تابعة لوزارة الداخلية.
والجواب الواضح أنه بعد نهاية حرب الصحراء وتأخر سلطة الداخلية خطوة إلى الوراء أصبح الوزير كما قـلت سابقا تارة يكون تابعا لهذه القوات في التشريع على الأقل وحتى في الإدارة لأن الوالي في الاجتماعات الإدارية يرأسه قائد المنطقة العسكرية.
ومن هنا بدأت صلاحيات وزير الداخلية تـتـقـلص وبهذا التـقلص بدأت جميع المجالات الحيوية في الدولة تفقد رعايتها.
فمثلا الوالي كان هو المسؤول المباشر عن التعليم وعن الصحة وعن التنمية الريفية الخ وقبل ذلك كله عنده سلطة كاملة على الأمن بجميع قواته الأمنية سواء الشرطة أو الحرس أو الدرك وحتى المناطق العسكرية.
فالشرطة والحرس سلطته عليهم مباشرة، فجميع تحركاتهم لا تقع إلا تحت سلطة الوالي، أما الدرك فما يتعلق منها بأي عمل في المدنيين تحت إشراف الوالي أيضا، وكذلك القواعد العسكرية كان في أذهانهم بقايا من نيابة الوالي عن الرئيس فإذا ذكروا بها تذكروا.
إلا أننا لم نصل إلى سنة 89 سنة الأحداث حتى جاءت السلطة آنذاك بالديمقراطية العسكرية الفوضوية ووقع تفكك الجميع تفكيكا جذريا دخل كل مكتب سلطة في الدولة.
فمثلا أصبحت سلطة السياسة المنزوعة العقل والفهم السياسي، وبدوية التفكير هي السائدة لأن قائد السياسة وهو الرئيس لا يعرف السياسة فهو يعرف أفعل نهائيا وبقوة أو لا تفعل نهائيا وبقوة وبذلك شعرت الإدارة الإقليمية بدءا من وزير الداخلية والولاة والحكام أن السلطة خرجت من أيديهم إلى السياسيين "شبه البهلاء" فبدأ الوالي والحاكم كل أحد منهم يأكل صلاحياته بمعنى يجعلها وراء ظهره للقـنية - مستقبلا - وكذلك كل وزير بلا استـثـناء وإذا كان هناك استـثـناء فأقل من أن يذكر.
فانحل بذلك جميع عرى مجالات الدولة السياسي ـ الثقافي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي إلى آخره.
فالقوة التي كانت تعمل مباشرة تحت سلطة الداخلية تفككت كما يلي:
- فالشرطة عاشت أكثر زمنها قائدها عضو في اللجنة العسكرية لا سلطة عليه للداخلية إلا سلطة ضعيفة وخجولة بين الوالي ومعاونيه من الشرطة بشرط أن لا يبلغ المدير العام تصرفا لا يرضاه ولو أمر به الوالي، والحرس الوطني أصدر نظاما عسكريا بموجبه أصبح ضمن القوات المسلحة وتبعيته للمدنيين الإداريين يعدها في نظره تبرعا منه فقط لأن قائده أصبح رئيسا للأركان، والدرك كانوا أصلا تابعين لوزارة الدفاع إلا أنهم كانوا بطبيعة عسكريتهم المرنة منفذين لأوامر الإدارة على أحسن ما يرام قبل هذا الانحلال الذي عم الجميع.
وبعد أن أوشكت موريتانيا على الانهيار لفصل وزارة الداخلية وإدارتها الإقليمية عن كل رعاية للمصالح في الدولة وحل محلها المنتخبون على غير هدى من السياسة الديمقراطية الفوضوية ـ جاء الرئيس السابق بانقلابه ومعه رفيق دربه الرئيس الحالي، وبدل من أن يقوم بإرجاع الدولة إلى حالتها الذهبية أيام الاستـقلال وإرجاع صلاحية وزير الداخلية وإدارتها الإقليمية إلى رعايتها لجميع المجالات في الدولة، وإرجاع القوة الموضوعة أصلا تحت سلطتها إلى حالتها الأصلية من تـتـبع المعلومات وجمعها والإحاطة بها وإيصالها للإدارة الإقليمية قبل إيصالها إلى قياداتهم الأمنية والعسكرية فبدل ذلك جاء الرئيس المنصرف ليقـلب موريتانيا رأسا على عقب فينشئ إدارة من فكره هو خاصة ويقول إن الإدارة الإقليمية هي أفسد من أن تصلح وكذلك القوة الأمنية التابعة لها من الشرطة لا تصلح للإصلاح ـ فالواجب تجاهل الإدارة الإقليمية وقوة الأمن ـ وإبدالها بقوة الدرك في التدخل المباشر في الإدارة وما يتعلق بالأمن فالحرس الوطني يساعد في التنفيذ لكل قرار يتخذه الرئيس سواء من فكره شخصيا أو من توجيه الدرك له.
ويقال هنا إنه قال إن الشرطة لن تزداد في زمنه وأن الموت والتقاعد كفيلان للتخلص من وجودهم في الدولة، وكذلك يقال إنه قال إن الإدارة الإقليمية لم تكن نزيهة في العمل لإعطاء القطع الأرضية، ولذا أعطيت تلك العملية لوزارة الإسكان بإشراف الدرك والحرس ولا يعلم إلا الله ما وقع في ذلك التقسيم الذي تولاه شباب كله جاء بواسطة سياسية وأصبح يعمل لتلك الواسطة إلا من رحم ربك.
وعلى كل حال وباختصار شديد، أصبحت الدولة بين عشية وضحاها لا راعي لأمنها حتى على المستوى العام في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخ.
وهنا أوكد أنه يمكن أن يكون الرئيس العسكري عن حسن نية أعطاه اجتهاده أن هذا يكفي في تأمين المدينة من الجرائم فهو قد قام بتقسيم انواكشوط على 3 ثلاث مقاطعات عند الدرك وثلاثة عند الحرس وثلاثة عند الشرطة بمعنى أن هذه العناصر تحرس المدينة في الليل بالوقوف عند (ملتقى الطرق) لإيقاف السيارات ـ وهنا أضع هذا السؤال: فهل اللصوص إذا أرادوا السرقة أو الاغتصاب أو أي جناية أخرى سيمرون على ملتقى الطرق ليخبروهم بما في نيتهم وهل يمكن الوقوف أمام الجريمة في الليل دون البحث عن أماكن المخططين لها في النهار، وذلك إجراء شرطي ترك نهائيا ولذلك انهار الأمن إلى أقصى حد وفي جميع أنواع الجرائم ــ ومن المعلوم أنه انتعش أخيرا بدون رجوع سلطة الداخلية.
وأود أن أقول في هذه الكلمة إن أسوأ حالة عاشتها موريتانيا كدولة بعد استقلالها هي هذه الحالة التي عاشتها موريتانيا أخيرا فهذا الرئيس المنصرف ترك الشعب الموريتاني على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: رجال أعمال أو رأسماليون أو وجهاء قبائل لا يريدون من الدولة إلا مادتها وليس لهم وسائل لذلك إلا السياسة وتملقها ومحاولة إظهار الولاء للرئيس، أما التفكير في التنمية أو في وضعية الفقراء أو إنعاش الاقتصاد فكل ذلك (عنقاء مغرب في تفكيرهم) وهؤلاء هم أكثر الشعب الموريتاني.
الصنف الثاني: هم (السؤال) في الشوارع وفي المساجد وتحت الأضواء الحمراء وأخيرا دق البيوت بيتا بيتا، هؤلاء يتكونون من جميع أصناف الشعب الموريتاني ذكورا وإناثا شبابا وشيوخا.
الصنف الثالث: أصحاب الشرائح الذين استنـتجوا أن تـتبع قضية الشرائح وتوسعتها أسرع في تحصيل مادة الدولة عن طريق إدخال قضية الشرائح في السياسة.
وهنا أود أن نلخص ما جاء في هذه الكلمة وهو: أن على وزير الداخلية أن يرد للرئيس تعيينه إلا إذا حدد له الرئيس نوع سلطته على الدولة وتكون شاملة على كل شبر من أرض الدولة سواء كانت تابعة له فعلا أو تابعة للوزراء الآخرين لأنه هو الوحيد الذي ينوب عن الرئيس في جميع صلاحياته ويحرم على كل سياسي أن يتكلم في شأن الموظفين إلى آخر ذلك من إرجاع سلطة رئيس الدولة عن طريق الإدارة الإقليمية وسلطتها على جميع المواطنين.
وهنا أعطي مثالا: فهل سمعتم واليا يأتيه مواطن يقطر دما شاكيا من مشاجرة على الأرض فيقول له نحن محرم علينا الكلام في ذلك اذهب إلى الدرك أو الحرس أو الإسكان الخ.
وإلا يقوم الرئيس بهذا الإجراء فأقيموا صلاة الجنازة على موريتانيا عن طريق وزارة داخليتها ونقول جميعا لأولئك الأوائل الذين استقلت موريتانيا على أيديهم {رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}.