استـــــهلال...
يقول الفيلسوف الكامروني، إيبوسي بولاجا (إن ما يحتل المقام الأول لدى المونتو، ليس التعجب أو الاندهاش بل الذهول وحده الذي تسببه الهزيمة الشاملة).
***
إن أي منظومة سياسية من المقبول لها تماشيا مع منطق السعي للوصول للسلطة والحفاظ عليها، أن تسلك أي أسلوب يبقيها في صدارة المشهد السياسي أطول وقت ممكن.
وقد شهد التاريخ المعاصر للسياسية والدول الوطنية على حد السواء نمطا مميزا من افتعال وسائل البقاء في الحكم، فقد زال الرئيس السوداني عمر البشير سنوات قليلة بعد انتهاء قضية جنوب السودان، التي بقيت لسنوات ملفا استراتيجيا لبقائه، بل إن الذين أسقطوا البشير كان على رأسهم قواد من قوات الجنجاويد التي أنشأ لحماية حكمه، الحالة ذاتها تكررت مع بوتفليقة حين توقفت المخابرات الجزائرية عن عادة تكرار بعبع الجنوب المهدد بشبح العشرية السوداء،...، وغير ذلك كثير من القضايا التي تم استخدامها كملف استراتيجي لحكومة ما أو منظومة سياسية ما، يقوم على مبدأ التخويف من "الإرهاب المحتمل" كما سماه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حين طلب تفويض الشعب في لحظة لها ما بعدها.
حالة التنظير بشكل عالمي والتصرف بشكل محلي، لم يسلم منها الفضاء السياسي الموريتاني الذي وجد في العديد من القضايا ملفات إستراتيجية لا يراد حلها مهما كان جمال وكثرة التنظير الخارجي بشأنها، ويأتي في صدارة تلك القضايا الإرث الإنساني وما يوصف حاليا بقضية الحراطين ، - وإن كانت حالة أعم تشمل كل بنية التراتبية الاجتماعية في موريتانيا، وقضايا كثيرة عالقة في دواليب المنظومة السياسية والاجتماعية الموريتانية ترفض الحل.
فبالرغم من التقادم الزمني لقضية الإرث الإنساني في موريتانيا، إلا أنها لم يُقدم لها في أي من الأنظمة السابقة حلا يذكر، بل تركت تذكي صراعات وتُستحضر في مختلف المواقف العامة والخاصة، كما يتم استخدامها كمهماز أمني لتبرير التضييق وعدم التفاعل مع بعض الجهات التي تسعى للتقدم كشريك وطني، أو كوجه سياسي بمشروع قد يؤثر بشكل قوي على قاعدة أنصار وداعمي القوى الحاكمة.
فتدخل الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله والمرحوم اعل ولد محمد فال ومن بعدهم، وحتى الرئيس محمد ولد عبد العزيز، كل هذه التدخلات لم تقدم مشروعا مبنيا على مبدأ الحل الجذري، ولا يقع العتب هنا على السلطة بشكل كلي، بقدر ما يقع على نمط الفاعلين الذين خلقت من أجل الاستفادة من هذه القضايا، والذين يدركون أن بقاءها هو ضمانهم الاستراتيجي للمشاركة في الفضاء العام، أي أنه ليس من الحكمة أن تحل هذه القضايا التي تحولت لنمط تبادل المصالح بين السلطة وأدواتها، يجعل منطق التأزيم يخدم مصالح الجانبين.
الجميع يعرف من عين على حساب معظم القضايا ذات الطبيعة الإستراتيجية للوطن (قضية العدالة الاجتماعية، الإرث الإنساني، ملف حقوق الإنسان، ملف الأدوية المزورة، ملف الشيخ الرضا، ملفات الصيد...)، وهو مستوى التأثير الذي تخلفه على التوزيعة السياسية في البلاد، وحتى من يتم اختياره كي يحرك هذا الملف في أي من الاتجاهين، اتجاه التأزيم أو الحل.
إن نمط الاستخدام الاستراتيجي الذي يجنب هذا النوع من القضايا أي تقدم فلا هي تتحرك في طريق الحل ولا تتحرك في اتجاه التأزيم "الذي يفرض الحل في مستوى ما"، يجعلها بركانا اجتماعيا قابل للانفجار في أي لحظة، وهو ما يمثل نوعا من توازن القوى وتبادل التهديد في هذه المنطقة الرمادية التي تصنف خارجة عن قانون النظام، داخلة تحت سيطرة جهات بعينها، تحركها تبعا لمصالحها الخاصة وليس سعيا لبناء عيش جماعي مشترك، يقوم على (قاعدة غير قاعدة القوة) كما يسميها جورج بوردو.
ذات التحريك الاستراتيجي للقضايا والملفات الشائكة هو ما يقام به في ملف قضية الحراطين، التي ظلت هي الأخرى كلما تقدمت للحل نجد أنها رجعت للوراء بأميال، وبما أننا شخصنا نمط العمل فيمكن عرض مجموعة مؤشرات تعيق الحل في مثل هذه القضايا التي تستخدم كدرع استراتيجي لبقاء سلطات ما في الحكم أطول وقت ممكن، وبقاء هذه القضايا كورقة ضغط بيد جهات بعينها تحركها في أي وقت، طالما لامس ذلك هوى في نفس الطرف الآخر.
خلق عدة رؤوس لقضية واحدة: يمكن للناظر للمشهد السياسي والحقوقي... أن يدرك الكثرة الظاهرة في من يوصفون برؤوس القضايا التي لها الكثير من التأثير في المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد، هذه الكثرة في قيادات وزعامات القضايا، يمثل تشتيتا للجهود من أجل الحل، ويقضي على أي فرصة لتكتيل هذه الجهود وجمعها في صعيد واحد من أجل الحل الجذري لهذه القضايا التي يمثل حلها ضمانا لوطن جامع وتجاوزا لفكرة مواطني الطوائف والشرائح في وجه الدولة.
تحطيم كل ما هو "رمزي" وتنميط المتاح: الكثرة المشار إليها آنفا تمثل الفرصة الكبرى لتأجيج الصراعات العقيمة حول القضايا والتنابز بالألقاب والاتهامات بالخيانة والتخلي عن القضية المركزية، وهو ما يؤدي إلى قتل أية رمزية للقضايا ومن يقودونها ويحولها مع الوقت إلى لعبة شد حبل يتعب ممارسوها دون أن يكون هناك أي تأثير على الحبل نفسه.
التأسيس لصراعات وهمية: الصراعات التي تضج بها الساحة اليوم هي فعلا صراعات لو توقفنا للحظة لندرك حقيقتها، نكتشف أنها لا معنى لها ولا مبرر لها، وحتى ليست مؤسسة على أي قضية، وإنما هي معارك وهمية تقودها جهة ما تشعلها متى شاءت وتنهيها كيف ما تشاء.
قتل المناضلين واستبدالهم بمستثمرين: هذه الصيرورة قضت مع الوقت على فكرة المناضل بشكل مطلق، وأنتجت مجموعة من المستثمرين، الذين يرون العوائد المادية والمعنوية لنشاطهم أكثر مما يؤسسون لنضال وطني وفعال لإيجاد حلول لمشاكل الضحايا والمتضررين، هؤلاء المستثمرون هم أنفسهم الذين يؤسسون لميوعة القضايا وضحالتها وقتل فكرتها بشكل تام، حتى تتحول مع الوقت إلى فزاعة لا تفيد من استثمر فيها وتنهي الأمل في أي حل يخدم الوطن ضرورة، في المقابل تكرس صراعات وتخندقات جانبية ومصالح فردية ضيقة جدا.
القضايا الإستراتيجية للدول في حقيقتها ملفات لا تحل أبدا، فحلها لا يخدم السلطات القائمة ولا المستفيدين كاستثمار بإنتاجين داخلي وخارجي، ومع ذلك بقاء مثل هذه الملفات عالقة يعني أن الوطن لن يتقدم إطلاقا نحو الرعاية المباركة لمواطنيه، ولن يكون وطنا قادرا على سلك طريق النماء ولا طريق الثورة، التي تعد سبيلا مهما للوصول إلى أرضية جامعة عادلة ومنصفة، تجسد ضرورة من ضرورات الدولة التي أسسناها كي لا يطيع بعضنا البعض الآخر، ولكي نخضع لقانون يسري على الحاكم والمحكوم.
ختاما...
يقول عبد الرحمن ابن خلدون (إن الأوطان كثيرة القبائل يستحيل أن تستحكم فيها الدولة)، واليوم يمكن أن يضاف لمقولة ابن خلدون إن الأنظمة التي تقوم على تأجيج الصراع يستحيل أن تؤسس دولة مباركة (دولة الرعاية).