كلمة الإصلاح وصلت في نفي تقسيم البيظان في موريتانيا إلي فئتين أي وصلت إلى وحدة نسب تجمعهما في أصلهما العربي اللغوي الموحد.
فمن المعلوم أن الألوان لا تكون أصلا لوحدة، لأن هذا الإنسان خلق كله من طين والألوان محدودة، فلو كان كل لون يعد أصلا منفصلا لكانت أصول أجناس البشر قليلة بعدد الألوان، ولكن اللغات هي التي تحدد القومية، كما جاء ذلك مبينا في القرآن في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}، كما بين المولي عز وجل أنه أرسل لكل أمة خلقها نذير يقول تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيه نذير} أي رجل من قومها يتكلم بلغتها، فلو كان القرآن ينزل الآن ونزل على بيظاني أو حرطاني لنزل باللغة العربية ، وبذلك تكون اللغة الواحدة هي أصل لكل الأمة التي تتكلم وتتفاهم بها أي البيظان ولحراطين.
وهناك دليل تاريخي آخر على أن لغة الشخص هي أصله، فمن المعلوم أن إسماعيل عليه السلام هو أب للنبي صلي الله عليه وسلم ومعدود من الأنبياء العرب، مع أن أباه ابراهيم وأمه هاجر ليسا بعربيين، إلا أن أول لغة تكلم بها في المهد هي اللغة العربية لسكناه بعد ولادته مباشرة في قبيلة جرهم الحميرية العربية، فأصبح هو بتلك اللغة عربيا، ويقول بعض التفاسير إن الله تبارك وتعالي عندما علم آدم الأسماء بعد ما نفخ فيه الروح، فكانت تلك الأسماء هي اللغات التي سوف يتكلم بها أبناؤه، وسوف تكون كل أمة عندها لغتها يلهم الله الأول من تلك الأمة بالنطق بها كما وقع ليعرب، فأول من نطق بالعربية هو: يعرب بمعني الفصيح، وبذلك يكون هو الأصل الوحيد لكل الناطقين بها سليقة أي في المهد بدون تعلم ولا كتابة.
هذه حقيقة موثقة وواضحة اعترف بها أم لم يعترف، ودليلها الفعلي الماثل أمام العالم الآن هو اقتتال القبائل بسبب القبلية مع اتحاد الوانها واختلاف لغاتها، كما هو موجود الآن في مالي، وفي كثير من الدول الأخرى التي ما زالت متخلفة تتقاتل على مجرد خلاف بسيط لأجل نعراتها القومية.
وبعد وحدة هذا الأصل سوف أتكلم على حقائق أخرى ماثلة أمامنا نحن الموريتانيين، البيظانيين بأبيضنا وأسودنا:
أولا: لا شك أن بعضنا كان يملك العبيد وهو قليل جدا وهذا البعض يشمل جميع فئاتنا الاجتماعية إلا أنه يقل هذا التملك في سوادنا العربي، ولكنه موجود بالفعل في ضواحي النهر من كرمسين إلى انتهاء شمامة الناطقة بالعربية، وفي أصحاب اللغات الأخرى الأعجمية.
فما دام السكان جميعا مسلمين والاستعباد تأولوه بوجود العبيد عند المسلمين في صدر الإسلام، فكل مسلم أيا كان لونه يباح له ملك العبيد سواء كان العبد لونه أبيض أو أسود، مع أننا أوضحنا في كتيبنا "معالم التحقيق في شرعية إنهاء الدولة لمسألة الرقيق" أن إباحة تملك الإنسان للإنسان وقعت في زمن محدد في صدر الإسلام ولأسباب معروفة عند الجميع وهي التكافل الاجتماعي بأرقي تعامله بين الانسان والانسان، وجاء الشرع بأدوات كثيرة للتخلص منه مما جعلها لم تتجاوز شرعية إباحته القرون الراشدة الأول، ومن غير المظنون عند الناس أن إباحة هذا التملك بسبب الأسر في الحروب الشرعية بين المسلمين وأعدائهم لم يقع فيها تعبيد إلا للون الأبيض من الأجناس، فالجهاد الأول وقع بين الجنس الأبيض المسلم والجنس الأبيض غير المسلم من العرب، واليهود والروم والفرس والترك، ولم يصل الجهاد الشرعي المتفق علي شرعيته إلى اللون الأسود، فالجهاد بدأ في الجزيرة العربية وتوجه جنوبا إلي شمال إفريقيا البيضاء العرب والبربر وما شاكلهم من السكان، وتوجه شرقا إلى الفرس والهند وغير ذلك من الأجناس البيضاء، ولم يصل إلي إفريقيا السوداء إلا حين أصبح القتال بين المسلمين وغيرهم تنازعا في إنشاء الممالك، فتارة تكون الغلبة لهؤلاء وتارة تكون لأولئك كما هو معروف في التاريخ، مع أن سكان كل بلد كان بعضه يملك بعضا بأسباب الملك الكثيرة في الجاهلية، ومما يدل على ذلك وهو اختصاص الملك بالرقيق الأبيض، ما جاء في شراح خليل، وخاصة شرح الدسوقي وهو في القرن السادس الهجري، وهذا الكتاب هو المقروء عليه خليل في موريتانيا: جاء في قول خليل في الحنث في اليمين (ثم بعرف قولي): أن من حلف في مصر ليعتقن عبدا لا يبر يمينه إلا أذا أعتق عبدا أبيض، فلو عتق عبدا أسود لم يكن بر يمينه لأن عرفهم لا يعرف العبيد السود، وأورد أمثلة أخرى لهذا العرف، وهو أن من حلف لا يركبن دابة، لا يحنث إلا إذا ركب حمارا لأنه المختص عندهم باسم الدابة إلى آخر الأمثلة.
ومن المفارقات أن هذا الكتاب الذي جاء فيه هذا موضحا هو من ضمن الكتب التي حرقت، ويسميها الحارق كتب النخاسة، فجميع ما فيها من أحكام العبيد وإباحة التعبيد في صدر الإسلام هو من العبيد أصحاب البشرة البيضاء، والأحكام فيها بدأت من زمن النبي صلي الله عليه وسلم، فكأن غضب الحارق إما منصب على إباحة تعبيد الأسرى في أول الإسلام ولا شك أن أي إنسان اعترض على الإسلام سيموت عن اعتراضه لمحدودية زمن عمره في الدنيا، وستكتب شهادة اعتراضه هذا ويسأل عنها كما قال تعالي عندما قال المشركون إن الملائكة إناث في قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا أأشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون}، وكذلك أي إنسان اعترض على أحكام الإسلام فهي قد شرعت وهو غير موجود، وسيموت عنها وهي موجودة مطالب بتحكيمها، وسوف تكتب شهادة كل من رفضها أو تركها من غير تحكيم وسيسأل عن ذلك.
وبعد شرود القلم إلى تفريعات الموضوع أعود لأقول:
إن لحراطين في موريتانيا لا يكونون وحدة بمعني الكلمة، وكذلك البيظان حتى تكون هناك فئة مهمشة للأخرى أو قائمة بغبن لها في الحياة، فالتهميش والغبن لا بد أن يكون القيام بهما مقصود لذاته، وتكون الوحدة القائمة به متساوية هي كلها، وكذلك الوحدة المهمشة أو المغبونة تكون كلها متساوية، وهذا متناقض مع الواقع، فالبيظان فيهم الأغنياء والفقراء ولحراطين كذلك.
فوحدات موريتانيا كانت قبائل بأبيضها وأسودها، فأين شخص قام باستدعاء قبيلته ووزع على أفرادها ما يملك؟
ونحن نعرف جميعا أن الفرق شاسع بين القبيلة نفسها بل بين الإخوة الأشقاء ، فكثير من الأشقاء يعطي زكاته لأخيه المحتاج، فعلي أساس هذه المساواة ، فهل يقبل حرطاني غنيا الآن وأبناؤه متقدمون جدا في هذه الحياة الدنيوية مثل بعض إخوتهم من البيظان أن يتقاسموا ما يملكون مع لحراطين الآخرين؟ فالبيظان ولحراطين من المغبونين (والجميع كثيرون) جعل الله لهم في أموال الأغنياء خاصة من البيظان ولحراطين نصيبا كما قال تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} أي البيظان ولحراطين الفقراء، وقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة} تعم الجميع، فهذا اليتيم وهذا المسكين في كل القبائل، وكل الفئات وكل الألوان وكل المسميات المميزة للأسر بعضها عن بعضها الآخر، فقبل الاستعمار لا توجد إلا "السيبة" التي ضاع فيها كثير من الحقوق من الجميع، وسلبت فيها الكرامة من الجميع، وبعد الاستعمار لا يوجد إلا القانون الفرنسي، فلا " ابارتايد " معمول به، ولا قانون عرفي معمول به جماعيا داخل القانون الفرنسي.
فإذا فكرنا في رفع الغبن أو الظلم كما يقوله البعض من بيظان واحراطين بدون تصور، أو حاولنا رفع التهميش فعلينا أن نتصور المجتمع ككل بيضا وسودا ونتصور واقعه الذي يعيش فيه، فأي أحد منا يعرف مهنة يستطيع أن يعيش بها فتكون معيشته سعيدة في وطنه بالنسبة لمن لا يعرف مهنة، فقول المناطقة: "الحكم علي الشيء فرع عن تصوره"، قاعدة عقلية لا بد من استعمالها، فمثلا: من ظلم من؟ ومن همش من؟ ومن غبن من؟ وأنا هنا أضع هذا التساؤل وكلي أمل أن يكون كل فرد من هذه الملايين الثلاثة الموريتانية بأبيضها وأسودها يحمل زكاته ولا يجد من يستحقها سواء كان أبيض أو أسود أو بأي لغة يتكلم إلي آخره.
ولكن علي الإنسان الذي أعطاه الله عقلا يميز به الأشياء أن لا يقول كلاما إلا وهو يستطيع تصوره في الخارج، وإلا يكون كمثل ما قال الله تعالي عن غير العاقل كمثل {الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء}.
هذه الصفحات كما يظهر موجه فحواها إلي كل من البيظان ولحراطين أي المجتمع الذي تجمعه اللغة العربية، ولكن في الحلقة القادمة والأخيرة سنبين بإذن الله أن لحراطين لا يشكلون أًصلا واحدا على أي اعتبار وكذلك البيظان لاختلاف أصل وجودهم هنا في موريتانيا ومكان سكناهم وعدم وجود أي سلك كان ناظما لكل أحد منهما بمفرده.
وإلى الحلقة القادمة بإذن الله
محمدّ بن البار