على مدار الساعة

الديمقراطية الكرتونية

30 أبريل, 2023 - 19:02
محمد بكاري سيسى

بمناسبة انطلاقة حملة الانتخابات النيابية والبلدية والجهوية؛ لتجديد الشعب اختيار ممثليه في هذه الدوائر، وهي ممارسة كما هو معلوم لصيقة بالتقليد الديمقراطي، بل ارتبط مفهوم الديمقراطية تقليديًا بهذا المعنى (حُكم أو سلطة الشعب) كما يحيل إليه اشتقاقه اللغوي الإغريقي.

 

إلاّ أنه رغم ذلك، تُظهر تجاربُ الأمم الديمقراطية الحديثة والمعاصرة في التنظيم الاجتماعي بجلاء اتساع مدارها أي الديموقراطية وتعدد مستويات ممارستها، وأبعد من أن تنحصر في "صناديق الاقتراع" وإنما هي ثقافة اجتماعية، وتجربة معيشية، وممارسة حيوية للأفراد في المجال العام والخاص بوصفهم أحرارا (الشعور بالأنا) داخل فضاء سياسي معين.

 

وإن الناظر للديموقراطية الشكلية (الكرتونية) في بلادنا، دول العالم الثالث، وبالخصوص إفريقيا؛ تكاد تنحصر في الإجرائية الانتخابية فحسب، فضلا عما يشوبها من خروقات وتزوير في أغلب الأحيان.

 

وإن المرء ليشعر بانفصام باد بين ديمقراطية الدستور، وأوتوقراطية الممارسة.

 

نتيجة لهذه المفارقة نتساءل: عن ديناميكية تشكّل الديموقراطية عند قادة التحرر، فهل أتوا إليها طواعية عن طيب خاطر، أو كرها فرضها عامل خارجي؟

وعما إذا ما كانت الأنظمة السياسية اللاحقة عنهم تدعم تنمية الثقافة الديمقراطية، أو بالأحرى تتقبلها أصلا كأداة لتسيير الشأن العام؟

 

زعمنا سلفا أن الديمقراطية ثقافة اجتماعية، وتجربة ذاتية، وليست مجرد وضع دستوري - قانوني،

 

وأعتقد أننا في غنى عن إسهاب في القول للاستدلال على زعمنا، وحسبنا الإشارة سريعا إلى التراث الفكري الخصب الذي استنبت ومهد لها ثقافيا، في سياق الحالة الغربية التي استوردناها منها.

 

نترصد جذورها البعيدة مقارنة بالعصر الراهن؛ في حركتي (النهضة والإصلاح الأوروبيتين)، والقريبة في النظريات الحديثة والمعاصرة، أبرزها نظرية (التعاقد الاجتماعي) التي كانت أكثر راديكالية سيما مع جون لوك وجان جاك روسو، بحيث أحدثت قطيعة ابستمولوجية في الفكر السياسي ونقلة نوعية من نموذج (الحق الإلهي) السماوي، إلى نموذج الحق البشري الوضعي متمثلا بـ(العقد الاجتماعي).

 

وأمّا عن كونها أي الديمقراطية تجربة ذاتية لشعب ما، نعرض ثلاث نماذج تاريخية كبرى للبرهنة عليها:

- الثورة المجيدة في انجلترا 1688، التي انتهت إلى إعلان لائحة الحقوق المعروفة 1689

- الثورة الأمريكية 1776 ضد الاستعمار الإنجليزي

- الفرنسية 1789 التي يعتبرها كثيرون التجسيد الفعلي للأفكار الديموقراطية.

 

وكل مظهر من مظاهر هذه الأحداث التاريخية الكبرى، نجد اتحادًا وثيقا بين الديمقراطية كأفكار سياسية؛ والديموقراطية كممارسة اجتماعية.

 

والعكس هو الحاصل في بلادنا التي تولدت من مخاض الاستعمار البغيض ولم تكن مهيئة آنذاك لصياغة نظام سياسي محلي وفقَ خصوصياتها الاجتماعية، والتاريخية.. ما اضطرها إلى الالتزام الشكلي بما زوّدها المستعمِر من نظام سياسي ومدونة قانونية وغيرها من الشؤون المؤسساتية، ولذلك فهي "دولة – نظام - مستورَد" بمصطلح الدكتور عبد الودود ولد الشيخ في كتابه "القبيلة والدولة في إفريقيا". ولم يتوقف عمل المستعمِر  في تزويد المستعمَرات القديمة بالنظام السياسي الديمقراطي فحسب، بل واصل في الحثّ عليه والترغيب فيه، بطابع اقتصادي متمثل في المعونات، كما يبين عبد الودود هذا الأمر بوضوح أكثر من موقف من كتابه المذكور وفي أحد سياقاته يقول: [إن القمة الـ16 لرؤساء دول إفريقيا وفرنسا، سنة 1990 بمدينة لابول الفرنسية جعل الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسو ميتراه بوضوح من اعتماد التعددية الحزبية شرطا للاستفادة من أي عون فرنسي في المستقبل قائلا بصريح العبارة لممثلي الدول الافريقية: "إن فرنسا ستربط إسهاماتها بالجهود التي ستبذل من أجل تحقيق مزيد من الحرية"] ص 108.

 

فما يكشفه هذا المقطع ومثله كثير، أن المستعمِر لم يترك لقادة مستعمَراته السابقة مساحة للتفكير في شأن سياساتهم العامة، بل فرض عليهم تبعية بلادهم له، وهذه إحدى تجليات الكولونيالية الجديدة Neocolonialism وهي استراتيجية ما زلت سارية المفعول كما يأتي الحديث عليها لاحقًا.

 

ننتقل إلى تحليل التساؤل الثاني:

في قارة كأفريقيا لا يتجسم المهتم عناء البحث لإثبات تخلّف (التنمية السياسية) فيها والتي أصبحت ترتبط بالممارسة الديمقراطية وهنا سنعفي أنفسنا عن الحديث عن أي عامل خارجي، لننصب اهتمامنا على الواقعية السياسية كما تمارسها الأنظمة وما تقدمها في مجال الديموقراطية، وإن وجدت ما تقدمها في هذا المجال فهو ضئيل في كنف بيئة معروفة بالتزوير الانتخابي، والانقلاب على خيار الشعب، وشخصنة الدولة والمؤسسات حيث لا فصل فعليا بين السلطات، ولا سيادة حقيقية للقانون الأمر الذي أباح الفساد بأبشع أنواعه، وعمق الفجوة بين المواطنين لانعدام المساواة، ولا هيبة للمجتمع المدني، ولا حرية التعبير في الشأن العمومي، وتفريق الاحتجاجات السلمية بطريقة بوليسية وحشية، وتفقير الشعب ثم شراء أصوات البسطاء منهم في الانتخابات، وحيث كيانات موازية للدولة.

 

لا حدود لها تلك الممارسات الهجينة، كما هي الأسباب المباشرة في تذييل دولنا في قائمة التصنيفات الديموقراطية العالمية.

 

كل هذه إشارات تتضح فيها أن علاقتنا بالديمقراطية علاقة نفعية - اقتصادية بالأساس نستعملها في معركة الأيديولوجيات بين القوى الكبرى، كسبا للمعونات الخارجية وتحسنا لسمعتنا أمام الغالب المهيمن، وليست عن إيمان بها كبديل للخروج من عتبة التخلف.

 

وكما بدأنا مع الانتخابات التي تعرف بـ"الديموقراطية التمثيلية" ننتهي إليها إذ هو الشكل الذي تنتهي إليه الممارسة الديموقراطية، فإننا في العالم الثالث وفي إفريقيا بالتحديد يندر أن نتلمس إرادة فعلية للأنظمة نحو أن تكون الانتخابات شفافية، ليمارس الشعب سلطته فيها، والحاصل أنها تدّعي الديموقراطية لحاجة في نفسها أن تحظى بشرعية لدى حلفائها في الخارج، وليس احتراما لإرادة الشعب، ولهذا ذكر ستيفن دي تانسي في كتابه "علم السياسة الأسس" أن [معظم الأوتوقراطيين يدّعي أنهم حكام ديمقراطيون، لإرضاء الجهات الغربية مانحة المساعدات والحلفاء الدبلوماسيين والعسكريين والمستثمرين أيضا] ص 249.

 

استنتاج:

وفق المعطيات المقدَّمة، تظل الممارسة الديمقراطية، غير ممكنة، إذا بقيت في الحالة النصية الدستورية الجامدة، ولم تترجم إلى ثقافة شعبية للدرجة التي يتبلور فيها معنى "المواطنة" ومن ثَمّ إلى تجربة حيوية للحرية والاستقلالية الفردية وحمايتهما من أي مصادرة أو انتهاك بقوة القانون، "ذلك أن الديمقراطية ثقافة زائد تجربة كما حددنا فيما مضى" فلا أمل حسب تصورنا في أي تغيير يضمنه (صندوق الاقتراع).

 

كانت هذه الوقائع التي تأكد أن يتماثل أمامنا في المواسم الانتخابية ليست سوى "ديمقراطية كرتونية" شكلية لا تتوفر على مضمون يُذكر على مستوى الممارسة الواقعية.

 

و {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.