على مدار الساعة

في وداع المرابط الحاج

28 يوليو, 2018 - 16:38
محمد غلام الحاج الشيخ

رحل عن عالم الفانية علم من أعلام الأمة الإسلامية ورمز من رموز الانتصار على النفس والغلبة على شهوات الحياة وقرين كل إنسان من الشياطين، وأحسب أن قرين الحاج أسلم وماس مع الأواهين في تويميرات يروح مع الذكر والتلاوة ويغتدي،

 

رحل المؤمن الذي بز أقرانه ومعاصريه في إدارة الذات وترويض الهوى،رحل شيخ جسد العبودية لله حقا والانتصار على النفس فكان قطعة من زهاد الرعيل الأول من التابعين وتابعيهم بإحسان أخّرها الله حجة بليغة تصدق مرويات الذهبي في "سير أعلام النبلاء" وابن الجوزي في "صفة الصفوة" وما ورد في "الزهد" للإمام أحمد وما ورد في "الرقة والبكاء"، وكان مصداق "حلية الأولياء" لأن حياته وسيرته جسدت "مطهرة القلوب".

 

كان تماما كالذي قرأنا عن محمد بن واسع وسفيان الثوري ومالك بن دينار والفضيل بن عياض ومحمد بن المنكدر... تلك الصفوة من الذين ضعفت نفوسهم أمام وارد الخشية، كما يقول بن تيمية فذابت منهم القلوب رغبة في ما عند ربهم ورهبة فتنكبوا الحياة وانشغلوا بالعمل الصالح وسخروا الجوارح في طاعة الرحمن، كل همهم أن يقطعوا مفازة العمر بعمل مقبول وخاتمة حسنة تنجي من عذاب الله .

 

ابن واسع العلوم

فما زال هذا المنكب القصي من الخريطة يحتفظ للأمة بمؤشرات أصالة من جمع العلوم وحفظ المتون ووعي الشعر وقرضه مع ألوان من التعبد والزهد تعطيك نسخا أصلية من ما روي عن القوم.

 

عرفت لمرابط الحاج عن طريق بعض تلاميذه فشدني إليه بركة أثره فيهم، عرفت تلميذه شيخي شغالي ولد المصطفى فعرفت فيه صنوفا من الدأب على العبادة والاستقامة عليها قل نظيرها، وكان يومها في منتصف العمر لاحظت أن شغالي إذا استيقظ في وقت من الليل مهما كان منتصفا أو ثلثا لا يعود لوسادته كما أنه لم يفارق موطن صلاة الفجر قط حتى تطلع الشمس قيد رمح ويصلي عددا غير قليل من ورد الضحى، ومع الوقت والحديث العفوي عرفت أن ذلك مقتبس من سيرة الحاج وتربيته العملية كما تعرفت على شاب في العشرينيات من العمر حسن السمت قليل الكلام دؤوب على الضحى والقيام مكثر من النوافل، وعند التدقيق عرفت أن سيدي محمد ولد المسومي نال من هدي الحاج وسمته ومدرسته العبادية الفريدة.

 

من بليغ المروي عن السلف الصالح قول أحدهم:

 أدركت مالكا من زينة الحياة الدنيا...

ولذلك كنت شغوفا بزيارة الحاج وإدراك لقياه وسماع حديثه قبل الرحيل المحتوم لكل منا، فيسر الله أن زيارته كانت صحبة شيخنا العلامة الشيخ محمد الحسن الددو مع ضيوف عرب كانوا معنا،  وكان ذلك في سنة 2002 بعد ظهيرة يوم قائظ وعبر طريق شاق عانت فيه سيارات الدفع الرباعي وهي تتسلق الجبل الأشم وتقطع الوادي الغائر، اللذين احتمى خلفهما الحاج على رأس شعفة من شعاف تكانت يعبد الله ويذر الناس إلا من خير...

 

  • كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرتُ ظِلَّهُ .. بِلَيلى فَلَهّاني وَما كُنتُ لاهِيا

بِثَمدينَ لاحَت نارُ لَيلى وَصُحبَتي بِذاتِ الغَضى تُزجي المَطِيَّ النَواجِيا

فَقالَ بَصيرُ القَومِ أَلمَحتُ كَوكَباً بَدا في سَوادِ اللَيلِ فَرداً يَمانِيا

فَقُلتُ لَهُ بَل نارُ لَيلى تَوَقَّدَت بِعَليا تَسامى ضَوءُها فَبَدا لِيا..

 

فنزلنا الحي المتواضع الذي تأرز إليه قلوب المتعلقين بالشيخ محبة ومهابة أدركناهم وهم يستعدون لصلاة العصر فنزلنا بترحاب وكرم في مكان الضيافة وتوجهنا للصلاة في المسجد العريش وكانت المفاجئة !إذ جيء بالشيخ، كما في الحديث يهادى بين الرجلين فأقيم للصلاة وهو إمام فصلى بالناس صلاة مكتملة وبعدها ابتدره الطلاب المعاونون فأسندوه، فهو حسب ما رأينا إذا دخل الصلاة دبت فيه روح ترفرف به في الأعالي متجاوزة ثقلتي اللحم والدم، فإذا خرج منها عاد إلى الإحساس بالجسم الذاوي ، تقدمنا للسلام عليه ثم حمل على الأعناق رجوعا إلى مكان سكنه المتواضع..

 

فمال إلى الوسادة وجاء من عرفه بالشيخ الددو ومرافقيه فرحب وأوصى بنا خيرا وبالحث على القرى، جاء المضيفون من أبناء الشيخ الكرام وأحفاده وألحوا في الذهاب إلى موضع الضيافة فأبيت مفارقة الشيخ إلا لماما وجلست أستمع لتدريسه وأتأمل كل شيء من حوله وأقتبس من سيرته...

 

وَكَيفَ تَرى لَيلى بِعَينٍ تَرى بِها

سِواها وَما طَهَّرتَها بِالدامِعِ

 

وَتَلتَذُّ مِنها بِالحَديثِ وَقَد جَرى

حَديثُ سِواها في خُروقِ المَسامِعِ

 

أُجِلُّكِ يا لَيلى عَنِ العَينِ إِنَّما

أَراكِ بِقَلبٍ خاشِعٍ لكِ خاضِعِ

 

فلحظت أن الشيخ - كما كان يقول أهل الحديث عن بعضهم- بدأ يختلط ولكن لسانه مطبوب على أمور ثلاث لا يتجاوزها طيلة الوقت الذي قضيت قربه قراءة القرآن وتدريس النصوص والكرم، فهو يسأل عن حال الضيوف وهل جهز لهم ما يكفي من القرى.

 

يمكن القول إن الشيخ الحاج كان البقية الباقية من عالم التصوف الحق، رغم أنه غير مريد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم وغير متبع إلا للقران الكريم فإن نهجه هو سمت المتصوفة الخوالي ورعيلهم الأول.

 

فقد كان زاهدا في الدنيا لم ينشغل بها قلبه طرفة عين.. سمعت من الأستاذ شغالي أن الأهل ألحوا عليه في رتق ما تفتق من نسيج الخيمة قبل صبيب الماء في موسم الخريف الذي أضحى قاب قوسين أو أدنى واجتهدوا في إقناعه بأن البلل سيكون مصيرهم إن لم يبادروا فأجابهم (نِيبسُ) بعد ذلك وهو تبسيط لتدبير أمر المنازل (الصاير)عند العارفين من أمثال الحاج، يحسبه البعض قارعة تحل بديارهم وما أجمله من تشخيص مبسط لنازلة الخصاصة لو نزل بردا وسلاما على القلوب ، ما زلت قدم بعد ثبوتها وذاقت سوء الصدود عن الله باقتراف تدبير غير مباح للوازم الحياة..

 

لن أضيف شيئا إذا قلت إن الشيخ رحمه الله كان عالما موسوعيا في مجالات الشريعة فقها ونحوا دراية وزاد بالقرآن والسير واللغة والعقيدة..

 

يا رُبَّ جوهر علم ظل ينفثه =لآخذين له لم يغمضوا فيه

يبدي عويصاته بالدرس بينة = كأن كل عويص من مباديه

لولا هداه بتلك التيه ما خرجت= فيها الهداة إلى حين من التيه

في مجلس نفع الله الأنام به == سيان عاكفه فيه وباديه

دعا إليه أولو الألباب مجتهدا=لسان حال فلبوا صوت داعيه..

 

لكن الشيخ أيضا كان رحمه الله أديبا، يعرف ذلك من خلال ما كان يترنم له من خيارات شعرية ذائقة ورقيقة من حيث ذائقته الشعرية، كما أن رسالته للجكنيين تدل على علو كعبه في الأدب النثري والكتابة البلاغية وهي محفوظة في ذاكرة تلميذه الوفي الشيخ الناجي ولد داهي أطال الله في عمره..

 

كان الشيخ من أهل الإلهام والخواطر الخارقة فقد حُدثت من طرق عدة بقصة تعتبر نموذجا لغيرها من نوادر الإلهام، فقد دعا بملابس جديدة ولبسها في صبيحة كان يجلس فيها بين تلامذته ثم قال "هذه الدراعة أهداها لي محمد عبد الرحمن ولد عبد الله ويبدو أنه توفي اليوم" كان ذلك سنة 83 من القرن المنصرم ولم يكن هنالك أي نوع  من  الهواتف في المنطقة، سجل أحد الحاضرين الوقت وعند نزوله إلى العاصمة بحث في الأمر فوجد أن وقت لبس الشيخ للدراعة وحديثه عن المرحوم محمد عبد الرحمن هو وقت انقطاعه..

 

كان الشيخ رحمه الله من نوادر أهل الزهد والورع، فقد حدثني الشيخ الناجي بن داهي أن أحد رجال الإعمال أهدى إلى الشيخ دارا في وسط العاصمة نواكشوط على شارع جمال عبد الناصر، وأن الشيخ الحاج رد بمكتوب يقول "إذا كانت هذه الدار لا شبهة فيها وغير مشروطة بشرط فانا أقبلها وإلا فلا حاجة لي بها" ، فغضب صاحبها من الرد، متناسيا أن القلب العامر بالخشية المفعم بالقناعة صاحبه ملك لثروة العزة ومقام الترفع عن الشهوات والشبهات، ولا موقع فيه لتملك شبهة زائلة.

 

أعزي في الشيخ أهله الأقربون وعشيرته أهل العبادة والقرءان، كما أعزي طلابه ومريديه وأخص واسطة عقد محبته وتقديره بني جاكان، عوض الله الجميع في الشيخ بركة وصلاحا ولا أذهب الله عنهم بركته والذكر الحسن...

 

يا أربعون جوادا أن حسبكم ... لطف المهيمن فلترضوا بما فعلا

ولْتذكروا الرزء لا ضاعت أجوركم .. بخاتم الرسل تنسوا خاتم الفضلا..

عند الوداع لقرية الشيخ- بعد واجب التعزية- تمنيت منى أجملها في الأتي

 

1- أن تقيم رابطة الأدباء والكتاب الموريتانيين مسابقة في أدب الرواية والوصف لتلك القرية وما ظللها من حزن مبرح وقرح الجفون من دافق بعد دافق، وأن يتبارى شعراء الرابطة في وصف حزن الجبل الذي كان الحاج يتدثر به أن يختلط بصخب الحياة...

 

2- أن تقرر الحكومة فورا شق طريق مسفلت يفك العزلة، ويزيل المعاناة عن حمى الشيخ وعرينه، فيسهل على الطلاب والساكنة حفظ ميراث الشيخ والمرابطة في تلك البقعة المباركة، خوفا أن يهجرها الطلاب الذين وفدوا إليها زمان الحاج بن فحفو، يوم امتدت ظلال القرآن على مراقي السعود ومدارج السالكين.

 

فإن لم يتيسر ذلك فلها الشيخ حمزة يوسف تلميذ الشيخ ومحبه، فله من العلاقات بالمنظمات الدولية والدول الغنية ما يجعل المشروع ممكن التطبيق

 

3- أن تقوم مبادرة من أهل الثقة والاحتساب من أهل المال والأعمال والمهتمين بالعمل الخيري والتعليمي وطلاب الشيخ القدامى  بإنشاء "جمعية وقف الحاج" فتكون مشروع وقف خيري كبير يطرح أسهم الوقف للاكتتاب ويكون الريع للمحظرة ومن كان الشيخ يعيلهم من ساكنة القرية المباركة.

 

هذا ولسان الذكرى والثناء عن الشيخ الحاج رطب دفاق بمسبلات المعاني وجليلات الذكريات وطيبات الآثار، ودواوين الأيام شواهده، فقد كان وطنه المحراب وزمانه التقوى والصلوات، فعليه رحمة الله وسقى قبره من كل رحمة مسبلة فواح الأريج ثجاج باللطف والنعيم، لقد كان بقية السلف المزكى وخاتمة الصلاح ومنتهاه.