على مدار الساعة

موريتانيا والوضع الجيوسياسي الجديد في منطقة الساحل

27 سبتمبر, 2023 - 18:12
أ. د. الصوفي ولد الشيباني - أستاذ بجامعة نواكشوط

ليس تقييم الأكاديمي صامويل راماني الوارد في مقاله المنشور في مجلة "فورين بوليسي"، والذي أثنى فيه على مكانة موريتانيا وأهمية دورها الإقليمي وتسابق الدول الكبرى" لخطب ودها" وحرصها على توطيد علاقات الشراكة والتعاون معها، ليس تقييما خاصا به، وإنما هو تقييم يكاد يتفق عليه الكثير من المحللين والمتابعين لشؤون المنطقة في السنوات الأخيرة. وهو نتيجة عوامل من أهمها، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الهام وما تزخر به من مصادر الطاقة الحيوية، ونجاحها في إبعاد خطر الإرهاب والهجمات المسلحة عن أراضيها وتمكنها من بسط سيطرة جيشها على كامل أراضيها مما مكنها من تحقيق مستوى من الاستقرار والأمن انفردت به في منطقة الساحل التي ظلت موريتانيا طوال السنوات الماضية هي المدخل الأهم لمعالجة قضاياها الأمنية والتنموية والعنوان الأبرز لها خاصة لدى الشركاء الغربيين الذين ما فتئوا يعبرون عن انبهارهم بالتجربة الموريتانية لمحاربة الإرهاب والتطرف ويعتبرونها نموذجا يحتذى.

 

ولا يخفى على أي متابع متبصر أن قيام مجموعة دول الساحل الخمس التي كانت موريتانيا صاحبة المبادرة بإنشائها والتي يوجد مقرها الدائم في نواكشوط، كان وراء الزخم الكبير الذي باتت البلاد تحظى به على الصعيدين الإقليمي والدولي بوصفها بوابة فعالة للتعاطي مع شؤون دول ومنطقة الساحل التي يزداد اهتمام العالم بها وتتنامى المنافسة بين الدول الكبرى عليها.

 

غير أن المتغيرات التي حصلت في المنطقة في الآونة الأخيرة وخاصة قيام انقلابات عسكرية في ثلاث من دول مجموعة الساحل الخمس وقطع علاقتها مع فرنسا المستعمر السابق والدولة ذات النفوذ الكبير في المنطقة وفي العديد من الدول الإفريقية، والتي تعتبر القوة الكبرى التي تقف وراء مجموعة دول الساحل الخمس، وما نجم عن ذلك من تغير جيو - سياسي في المنطقة ومن تبدل الفاعلين الرئيسين فيها وتشكل محور إقليمي جديدة  (تحالف دول الساحل الذي يضم كلا من مالي وبوركينافاسو والنيجر)، كل ذلك يجعل المتابعين لشؤون المنطقة يتساءلون عن ماذا كان بإمكان موريتانيا أن تحافظ على مكانتها الرائدة في المنطقة في ظل تغير المعطيات والظروف التي منحتها الأهمية المذكورة أعلاه؟ بل هل بإمكانها أن تتجنب تضرر علاقاتها بشركائها في مجموعة الساحل الخمس الذين باتوا ينسقون ويتحالفون مع قوة دولية مناوئة للقوى الغربية التي تتحالف معها موريتانيا؟ وهل يمكنها أن تزاوج بين الحفاظ على علاقتها وتنسيقها الأمني مع دول يضمها تحالف أمني هي ليست من ضمنه، وبين استمرار حالة عدم المواجهة مع الجماعات المسلحة الناشطة في المنطقة والتي استطاعت الحفاظ عليها طوال السنوات الماضية؟ وما الذي يجب فعله لضمان استمرار المكانة والدور الإقليمي المهمين لموريتانيا؟

 

إن التعامل مع الأسئلة المثارة آنفا يتطلب تصور السيناريوهات المنطقية والمعقولة لتعامل موريتانيا مع الوضع المستجد في منطقة الساحل.

 

وفي هذا السياق فإنه يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لتعاطي موريتانيا مع المتغيرات الجديدة من حولها.

 

السيناريو الأول: هو أن تتجه نحو توطيد علاقاتها مع الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي الذي يعتبرها شريكا رئيسيا ومميزا في المنطقة، بل إنه يعتبرها مدخله للتعامل مع قضايا منطقة الساحل، وهذا التوجه سيعني بطبيعة الحال تقليص علاقاتها بشركائها في مجموعة الساحل الخمس وقد يدفع بتلك الدول إلى المزيد من الابتعاد عن تلك المجموعة والنظر بريبة لموقف موريتانيا باعتبارها أداة للدول الغربية وخاصة فرنسا وهو ما قد يؤدي إلى توتر علاقاتها بشركائها في المجموعة خاصة أن التنسيق بينها وبينهم في مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة لن يبقى قائما كما هو بعد أن أصبحت تلك الدول متحالفة أمنيا في إطار جديد لا يضم موريتانيا الأمر الذي سيجعل الأخيرة تجد نفسها وحيدة في مواجهة المخاطر والتهديدات الارهابية، وهو ما سيجعلها أكثر حرصا على استمرار الوضع الحالي الأمر قد يتسبب في تزايد الشكوك خصوصا لدى الجارة القريبة (دولة مالي) من تنسيق موريتاني خفي مع المجموعات المسلحة في أزواد خاصة مع تنامي العمليات والمواجهات بين الجيش المالي والتنظيمات الناشطة في منطقة أزواد بالقرب من الحدود الموريتانية ولجوء بعض عناصر تلك التنظيمات لموريتانيا كمواطنين ماليين في حالات حساسة عقب المواجهات، بل ولجوئهم لطلب خدمات إنسانية أساسية متعلقة بالعلاج من الجراح التي يصابون بها أثناء المواجهات مع الجيش المالي.

 

كل ذلك سيعمق الهوة بين موريتانيا ودول المنطقة ويقلص الدور الإقليمي لها بل قد يقودها إلى الدخول في نزاعات ومواجهات ظلت بمنأى عنها طوال السنوات الماضية. ومن الواضح أن أي توجه يقود إلى هذا المآل هو توجه لا يخدم مصالح موريتانيا ويخلق لها شبه عزلة في المنطقة وبالتالي يجب تجنبه.

 

أما السيناريو الثاني فهو أن تختار موريتانيا نهجا أقرب إلى الحياد، بحيث تحافظ على علاقاتها مع شركائها في مجموعة الساحل دون الدخول معهم في إطار التعاون الأمني الإقليمي الذي استحدثوه، وتقلص في نفس الوقت علاقاتها وتنسيقها مع حلف شمال الأطلسي ومع فرنسا.

 

وسيكون تقليص علاقاتها الأمنية مع الدول الغربية هو ثمن احتفاظها بعلاقات جيدة مع شركائها في مجموعة دول الساحل الخمس، لأن ثلاث من تلك الدول باتت جزء من أجندة روسيا في المنطقة وأداة من أدوات مواجهتها مع الغرب ولن تقبل استمرار التنسيق الأمني مع بلد هو مدخل الناتو الرئيسي للتعامل مع قضايا الساحل، و بالتالي فإن اختيار هذا النهج سيفرض علي موريتانيا في النهاية تقليص تعاونها وتنسيقها الأمني والاستخباراتي مع  الدول الغربية، وهو أمر لا يخدمها في المرحلة الحالية التي تقف فيها وحيدة في مواجهة وضع إقليمي يزداد اضطرابا وتعقيدا.

 

وبغض النظر عن صعوبة ومخاطر التوفيق بين هذين الأمرين، فإن محصلة هذا السيناريو هي تراجع الدور الإقليمي لموريتانيا وتراجع التعامل معها كبوابة لدول الساحل، وبالتالي فإنه سيتسبب لها في وضعية من التهميش لا ينبغي القبول بالرجوع لها تحت أي ظرف، لأن الدول لا تقبل بتراجع دورها وتأثيرها إلا في حالات الانهيار أو الاستسلام في الحروب، كما حدث لألمانيا النازية واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية.

 

وإضافة إلى كل ما تقدم فإن هذا السيناريو لا يجعل موريتانيا في مأمن من استهداف المجموعات المسلحة التي تغيرت أطماعها وبات بعضها يطمح لأكثر مما كان يناضل من أجله، لأنها أصبحت تعتقد أن وضعها من حيث ميزان القوة وفرص النجاح أفضل بعد مغادرة القوات الدولية والفرنسية للمنطقة وانفرادها هي بجيوش دول منهكة ويمزقها التمرد والفقر وغياب العدالة... وفي هذا الإطار فإن استمرار تنسيق موريتانيا مع دول تحالف الساحل قد يدفع تلك الجماعات والتنظيمات لتغيير قواعد اللعبة في العلاقة معها مما يجعلها في وضعية مواجهة مع تلك التنظيمات دون أن يكون لها سند أو متكأ إقليمي يدعمها. ونظرا لكل ذلك، فإنه يجب أيضا تجنب هذا السيناريو كسابقه.

 

أما السيناريو الثالث، فيتمثل في تمسك موريتانيا بعناصر القوة الحالية لديها وخاصة مجموعة دول الساحل الخمس والعمل على تعزيز دورها في مجال الاقتصاد وإقامة البنية التحتية وجلب التمويلات ومساعدات التنمية وهي أمور حصلت فيها خطوات وتعهدات مهمة من المانحين لصالح دول الساحل، هذا بالإضافة إلى توسيع عضويتها لتشمل دولا أخرى، على أن يكون ذلك مع التعامل بحكمة ومرونة مع الوضعية الجديدة لشركائها في المجموعة واحترام رغبتهم في إقامة تحالف أمني جديد يضمهم دونها مواليا لروسيا ومعاديا للغرب حليفها وداعمها الرئيس.

 

ومن الواضح أن هذا الخيار يتطلب ديبلوماسية فعالة وسرعة في اتخاذ المبادرات وتوظيف عناصر القوة المتاحة، وهي أمور يبدو أن موريتانيا تراجعت فيها منذ بعض الوقت في ما يتعلق بتعاملها مع مستجدات منطقة الساحل، حيث ظهر ضعف أداء ديبلوماسيتها حينما لوحت جمهورية مالي بالانسحاب من مجموعة الساحل الخمس قبل زهاء سنتين ولم تقم الدبلوماسية الموريتانية بأي تحرك ذي بال للحيلولة دون ذلك، بل إنه حتى بعد أن نفذت مالي انسحابها فعليا من المجموعة لم يلاحظ أي دور يذكر لموريتانيا، دولة المقر  والمستفيد الأول من المجموعة، لثني جارتها عن قرارها أو لخلق أجواء جديدة تسمح لها بمراجعة موقفها. وقد انضاف إلى ذلك عدم قيام الدبلوماسية الموريتانية بأي دور يذكر في أزمة انقلاب النيجر رغم ما تتوفر عليه البلاد من مقومات للعب دور إيجابي لإيجاد حل لهذه الأزمة التي طالت تبعاتها المنطقة برمتها وتكاد تؤدي إلى القضاء على الوضع الجيوسياسي للمنطقة والتي كانت موريتانيا من أكبر الكاسبين منه.

 

وجدير بالإشارة إليه أن ضعف الدبلوماسية الموريتانية في التعامل مع مستجدات المنطقة لا يتناسب مع خبرة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في قضايا الأمن والسياسة في منطقة الساحل ولا مع الثقة التي يحظى لها لدى قادة دول المنطقة!

 

وهذا الضعف أو شبه الغياب الذي اتسمت به الدبلوماسية الموريتانية تجاه قضايا ومستجدات الساحل هو ما يجعل الكثيرين يشككون في إمكانية  نجاح هذا الخيار في حالة تبني موريتانيا له، رغم أنه هو الأنسب لها وهو الذي يحقق مصالحها ويضمن استمرار دورها الإقليمي، إلا إذا غيرت  الدولة سياستها ونهجها في التعاطي مع مستجدات المنطقة ومسكت العصا من الوسط ووظفت كل عناصر القوة والعلاقات التي تخدمها خاصة دعمها لجمهورية مالي إبان خضوعها لعقوبات مجموعة دول غرب إفريقيا حيث وفرت لها منفذا آمنا مكنها من الحصول على حاجياتها من مختلف أنواع السلع الأساسية فضلا عن تموينها الدائم عن طريق ميناء الصداقة، هذا بالإضافة إلى ما يمكن لموريتانيا أن تساهم به من جهود لإيجاد تسوية للصراع في إقليم أزواد نظرا لقوة علاقاتها بالمنظمات والهيئات المناضلة في الإقليم.

 

وهكذا يتضح أن هذا السيناريو هو الأفضل لموريتانيا لأنه يبقيها دولة إقليمية محورية ويضمن استمرار أهمية دورها وتأثيرها، وبالتالي استمرار سعي كل القوى الفاعلة في التعامل معها من جهة، وكذلك حرص دول المنطقة على الحفاظ على علاقات إيجابية معها من جهة أخرى، كما أنه يجنبها الدخول في نزاعات أو صراعات مع جيرانها، وقد يساعد أيضا في استمرار الوضع القائم في ما يتعلق بنظرة الجماعات والتنظيمات المسلحة الناشطة في المنطقة لها.