الفِكْرُ باعِثُ السُّلوِك ومُوَجِّهُهُ. وأيُّ انْحِرافٍ في أنْماطِ تَفْكيرِ المَرْءِ تَعْكِسُهُ – بِالضَّرورَةِ - ضُروبُ سُلوكِه وتَصَرُّفَاتِهِ.
***
ولِتقْريبِ الصُّورةِ فإنَّ أَحَدَنَا قَدْ يُقَوِّمُ نَفْسَهُ، فَيَرَى لهَا - نَتِيجَةَ اخْتِلَالِ فِكْرِهِ - الفَضْلَ على غَيْرِهَا، وَيُنَزِّلُهَا - مِنْ ذلكَ الغَيْرِ - مَنْزِلَةَ الشَّرِيفِ مِنَ الوَضِيعِ، وَيَتَصَوَّرُ الواقعَ - تَبَعًا لذلِكَ - خلافَ ما هُوَ علَيْهِ، ويُسْنِدُ لبعضِ مُقَوِّمَاتِ الحَياةِ - كَالْمَالِ مَثَلًا - وَظَائِفَ لَيْسَتْ له؛ تَوَهُّمًا مِنْهُ، وَتَخَيُّلًا؛ فَإِذَا هُوَ: مُتَضَخِّمُ الذَّاتِ، مُسْتَصْغِرٌ قَدْرَ غيرِهِ، مُسْتَسْهِلٌ إِلْحَاقَ الأَذَى بِالآخَرِينَ: طَعْنًا فِيهمْ، وعَيْبًا لَهُمْ، واسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وسُخْرِيةً مِنْهُمْ!.
***
تِلْكَ هِيَ حَالُ النَّمَوْذَجِ البَشَرِيِّ الذِي تَعْرِضُهُ سُورةُ (الْهُمَزَةِ). وهُوَ نَمَوْذّجٌ مُنْحَطٌّ خُلُقِيًّا، يَصْطَدِمُ بِالفِطْرَةِ، ويَهْبِطُ بِسُلَّمِ التَّعَامُلِ البَشَرِيِّ، ويُبْدِي صَغَارًا في النَّفْسِ، ولُؤْمًا في الطَّبْعِ، وخَلَلًا في الفِكْرِ والمُمَارَسَةِ.
***
وقَبْلَ تَقْدِيمِ هذَا النَّمَوْذَجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ - كمَا وَرَدَ في السُّورَةِ الكَريمَةِ - نُشِيرُ إلَى بَعْضِ السِّماتِ المُعْجَمِيَّةِ والدّلالِيَّةِ الْمُمَيِّزَةِ لِلسُّورَةِ:
1. اسْتَأْثَرَتِ السُّورَةُ بِرَصِيدٍ مُعْجَمِيٍّ لَمْ يَرِدْ في غَيْرِها، مِنْهُ: {هُمَزَة، لُمَزَة، الْحُطَمَة، عَدَّدَهُ، مُوقَدَة، مُمَدَّدَة، ...}.
2. وَظَّفَتْ تقْنِياتٍ أُسْلُوبِيَّةً ذَات تَأْثِيرٍ قَوِيٍّ في الْمُتَلَقِّي، مِنْ أَبْرَزِهَا تِقْنِيَّتَا: التَّقَابُل والتَّهْوِيلِ:
أ. فَقَدْ تَضَمَّنَتِ:
- الْمُقَابَلَةَ اللَّفْظِيَّةَ بَيْنَ (الهُمَزَة / اللُّمَزَة) و(الْحُطَمَة). وهِيَ دالَّةٌ علَى أَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ: فمَن كان هُمَزَة لُمَزَة فمصيره إلى الحُطَمَة! مَنْ كَانَ يَلْمِزُ النَّاسَ ويُحَطِّمُ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ وَأَقْدَارَهُمْ فَسُيُلْقَى في الحُطَمَةِ، فَتُحَطِّمُ كِيَانَهُ وكِبْرِيَاءَهُ.
- الْمُقَابَلَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ بَيْنَ وَضْعَيِ الشَّخْصِ الْهُمَزَةِ الَّذِي كانَ في صَدْرِ السُّورَةِ (عَيَّابًا لِلنَّاسِ، طَعَّانًا فيهِمْ) - بِحُكْمِ ما يَعْتَقِدُ لِنَفْسِهِ مِنْ "رِفْعَةٍ" لَهُ عَليْهِم بَوَّأَهُ إِيَّاهَا "مَالُهُ" - فَأَصْبَحَ في عَجزِها مَنبُوذًا مُطَّرَحًا: {لَيُنْبَذَنَّ}، فَتَحَوَّلَ، بِذلَك، مِنْ وَضْعِ الفاعِلِ إلى وَضْعِ الْمَفْعُولِ، ومِنْ وَضْعِ الكَريِم إلى وَضْعِ الْمُهانِ؛ إمْعانًا في إذْلالِه والنِّكايِةِ بِه.
ب. تَأَسَّسَ الخِطابُ فيها عَلى قاعِدَةِ: الْمُبالَغَة والتَّوْكيدِ والتَّهْويلِ؛ تَشْهيرًا بِالسُّلُوكِ الْمُعالَجِ، وتَعْرِيَةً لَه، وبَيانًا لِشَناعَتِهِ وَفَداحَتِهِ. ومِنْ ذلِكَ استِخدامُ:-:
- صِيَغِ الْمبالَغَةِ: {هُمَزَة}، {لُمَزَة}.
- ألْفاظِ الرَّدْعِ: {كَلَّا}.
- الألفاظِ الْمُؤَكَّدَةِ: {لَيُنْبَذَنَّ}.
- أُسْلُوبِ القَسَمِ الّذي دَلَّتْ عليْهِ اللَّامُ فِي: {لينبذن}.
- أُسْلُوبُ الاسْتِفهامِ الّذي غَرَضُهُ التَّهْوِيلُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ؟}.
- الإضافَةُ الْمُوحِيَةُ بِالتَّرْوِيعِ: {نَارُ اللَّهِ ...} فَإِضافَةُ النَّارِ إِلَى اللهِ - تَعالى- تَجْعَلُها مُخِيفَةً.
***
تَدورُ السُّورَةُ حَوْلَ مِحْوَرٍ واحِدٍ، هُوَ: الوَعيدُ الشّديدُ لِكُلِّ مَنْ صَغُرَتْ نَفْسُهُ، فَاتَّخَذَ المالَ إلَهًا، فَتَعَلَّقَ به تَعَلُّقًا اعْتَقَدَ بِمُوجبِه أنَّهُ أكْرَمُ وأرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ مَنْزِلَةً، وأنَّ تلك الرِّفْعَةَ المتَخَيَّلَةَ تَسْمَحُ له: بِالطَّعْنِ في النَّاسِ، وسَبِّهِمْ، والإرْجافِ بِهِمْ.
***
تَبْدَأُ السُّورَةُ بالوعيدِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، وتَنْتَهي بِه {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ... فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
وبَيْنَ البِدايَةِ والنِّهايَةِ نَجِدُ آياتِ السُّورةِ تَرْسُمُ مَلامِحَ فِئَةٍ مِنَ النّاسِ اخْتَلَّ فِكْرُ أصْحابِها، فَاخْتَلَّ سُلوكُهْمْ.
***
ويَتَجَلّى اخْتِلالُ الفِكْرِ في تَقْوِيمِ المالِ، وفي النَّظَرِ إلَيْهِ: وَظيفَةً وغايَةً.
- فَهُمْ:
1. لَا يَعُدُّونَهُ (أيِ: المال) وسيلَةً يَنبَغي استِثْمارُها في البِناءِ والإعمارِ.
2. ولا يَرَوْنَ إِنْفاقُهُ في تَحْقيقِ المنافِعِ والمَصالحِ والغاياتِ والأهدافِ المشْروعَةِ: صَوْنًا لِكَرامَةِ الإنسانِ، وتَحقيقًا لِلتَّعاوُنِ، وترسيخا للمَبادِئِ والْمُثُلِ العلْيا، ونَأْيًا به أنْ يَكونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ فقط.
- بَلْ إنَّهُمْ:
1. يَتَعَلَّقونَ بِه (أيِ: المالِ) - بَعْدَ النَّصَبِ في جَمْعِه - تَعَلُّقًا مَرَضِيًّا يَتَحَوَّلُ، بِسَبَبِه،ِ مِنْ وسيلةٍ إلى غايةٍ، فَيُنْفِقونَ أعْمارهُم، ويُمْضون جُلَّ أوقاتِهِمْ في عَدِّهِ وَتَعْديدهِ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}.
2. يَنْظُرون إليهِ كَمَا لَوْ كانَ إلَهًا يُجَنِّبُ الْمَرْءَ أعظَمَ تَجْرِبَةٍ وُجودِيَّةٍ تتَحَدَّى الإنسانَ. أَلَا وهِي الْمَوْتُ؛ 0إذْ يَمْنَحُ صاحِبَهُ - في ظَنِّهِمُ - الخُلودَ: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}! ومَا دَرَى هَذا الْمُخْتَلُّ الفِكْرِ أنَّ العمَلَ الصالحَ هوَ الَّذِي يُخَلِّدُ صاحبَهُ.
3. وأَهَمُّ مِن ذلكَ كلِّهِ أَنَّهُم اعتَقَدوا الأفْضَلِيَّةَ على الغَيْرِ إعْجابًا بمالِهِمْ، وازْدِهاءً بِثَرَائِهِمْ، فاسْتَنْقَصُوا النَّاسَ، وتَرْجَمُوا استِنْقاصَهُمْ سُلوكًا سافِلًا نَجِدُهُ فيما عَبَّرَ عنهُ القرآنُ الكريمُ بِالهمْزِ واللَّمْزِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. وهُوَ: سُلوكٌ تتَبادَلُ فيه (النَّرْجِسِيَّةُ) و(السَّادِيةُ) الأدْوارَ. فَتَرَى القَوْمَ فيهِ يتَلَذَّذونَ بذِكْرِ مَثالِبِ النَّاسِ، ويُعَدِّدونَ مَعايِبَهُمْ، ويَفْتَنُّونَ في ذلكَ، مُسْتَعْملِينَ: اللُّغَةَ القَوْلِيَّةَ (اللِّسانَ)، ولُغَةَ الجَسَدِ (الإشارَة باليَدِ، وتَعْبيراتِ الوَجْهِ، ...). يَضْحَكونَ، ويُضْحِكونَ غيرَهم. وقدْ تَمادَوْا في غَيِّهِمْ حَتَّى صارَ سُلوكُهُمُ المنْحَرِفُ كالسَّجِيَّةِ لَهُمْ، فَعُبِّرَ عنْهُ بالبِناء الدَّالِّ على السَّجايَا (فُعَلَة): {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.
***
إنَّ نموذجًا كهذا لجَديرٌ بالوعيدِ الْمُغَلَّظِ. وهُو ما تَكَفَّلَ به وَسطُ السُّورَةِ وآخرُها {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ... فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
***
وهَكَذا نَرَى أَنَّ مُخْتَلَّ الفِكْرِ، ومُنْحَرِفَهُ يَنْظُرُ إِلَى المالِ بِوَصْفِهِ: واهِبَ الخُلودِ، ومِعْيارَ التَّفاضُلِ، وَالْمُشَرِّعَ لِلطَّعْنِ في النَّاسِ، فَيَعْكِسُ سُلُوكُهُ ذَلِكَ الاخْتِلالَ والانْحِرافَ عَمَلِيًّا؛ حَيْثُ يَنْعَقِدُ مَجْلِسُهُ غالبًا عَلَى النَّيْلِ مِنْ أعْراضِ النَّاسِ؛ بِدَعْوَى فَوْقِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ. ومِنْ لَطِيفِ التَّعبِيرِ فِي السُّورَةِ: تَخْصِيصُ الفُؤادِ بِاطِّلَاعِ النَّارِ عَلَيْهِ: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} لأنَّهُ: مَحَلُّ الفِكْرِ الْمُنْحَرِفِ!، وَمْنبَعُ السُّلوكِ غَيْرِ السَّوِيِّ!.