على مدار الساعة

العناية الإلهية بالرحمة المهداة في ضوء سورة الضحى

6 مايو, 2019 - 01:32
بقلم الدكتور محمد محمود أحمد محجوب

أولا: بين يدي السورة

ما منَّا إلا وله معَ ربِّه - في أوقاتِ الضّيقِ والحرَجِ - مواقفُ تتجلَّى له فيها عظمةُ الرُّبوبيَّةِ: أَفْضالًا، وأَلْطافا ونِعَمًا لا تَنتهي. يَعْلمُ ذلك - في قَرارة نفسِه - كلُّ مَنِ استعرضَ شريطَ ذكرياتِه، واستحضر كُبْرَياتِ مَحطّاتِ حياتِه.

 

والنّبي ﷺ أقربُنا إلى الله، وهو يَتعرَّضُ – في سبيل أداءِ الأمانةِ التي يحملُها - إلى ظروفٍ عصيبةٍ، يَضيقُ بها الصَّدرُ، لا تُضاهي الظُّروفَ التي قد نمرُّ بها نحن.

 

ومِن تلكَ الظُّروفِ الظَّرفُ الذي سبق نزول سورةِ الضُّحى حيثُ احْتبسَ عنه ﷺ الوحيُ مؤقَّتا - أوِ احتبسَ هو عنِ القيامِ والقراءةِ ليلًا لعارضٍ صحِّيٍّ - فتَهَكَّمَ به قومُه: "لقد ودَّعك ربُّك، وأبْغَضَك! لقد تخلَّى عنك!" فنزلت السورة (الضحى) بلسَمًا شافيًا لفؤادِه، وتكذيبًا وكَبْتًا لأعدائه، وإنْعامًا، من الله تعالى لِصَفِيِّهِ مِنْ أنبيائه.

 

فلْنَقْتَرِبْ منها مُسْتَضِيئينَ مَعًا بضيائها؛ إذْ في ذلكَ اقترابٌ - بوجه ما – منه ﷺ: نعتا ومنهجا.

 

ثانيا: سِماتٌ مُمَيِّزَةٌ:

1. تضمَّنتِ السورة الكريمةُ - شأنُها شأْنُ جميعِ سورِ القرآن الكريمِ - ألفاظًا لم تردْ في أيِّ سورةٍ أخرى غيرها، مثل: {سَجَى}، {قَلَى}...

2. تميَّزَتْ بوحدةٍ عُضْوِيَّةٍ لافتةٍ: تَدرُّجًا، وتَرابُطًا، وانسجامًا دلاليًّا يَعِزُّ نظيرُه في الكلامِ البَشَرِيِّ. وقد عَكَسَتْ تلكَ الوحدةَ شبَكةُ الرَّوابط والإحالات المبثوثة في الآيات، فكانتْ بمثابةِ الخيْطِ النَّاظمِ تَلاحُقَ الدَّلالاتِ وتناسُلَها.

 

ومن أبرز مظاهر ذلك:

- كثافَةُ تواردِ الفاء الرابطةِ ما بعدَها بما قبلَها: (فترضى، فآوى، فهدى، فأغنى، فلا تقهر، فلا تنهر، فحدث، ...).

- قيامُ الخطابِ على ذكر الشيءِ وما يترتَّبُ عليه:

* كالقسَم وجوابه في صدر السّورة {والضحى... ما ودعك}.

*  وما كالشّرط وجوابه في آخرها {فأما اليتيم فلا تقهر...}.

*  وحالاتِ الانتقال من: اليُتيم، والإضلال، والفقر إلى ما يقابلها...

 

- انقسام جل ألفاظ السورة قسمين:

* قسم يدل على المنعَم عليه ﷺ حيث ورد ضميره زهاء عشرين مرة! وإنما حضر بهذا الكمِّ لأنه محور الحدث، ووجهة الحديث، ومحل النعم، ومدار العناية الإلهية. فقد حضَرَ عَبْرَ:

- كاف الخطاب المذكورة في:(ودعك، ربك، لك، يعطيك، يجدك، ووجدك، ...).

- كاف الخطاب المقدرة في: (قلى، فآوى، فهدى، فأغنى) إذ التقدير: (قلاك، فآواك، فهداك، فأغناك).

- ضمير المخاطَب (أنتَ) في: (تقهرْ، تنهرْ، حدِّثْ).

- الضّمير الذي يُلمَحُ في الوصف: (يتيما، ضالًّا، عائلا).

 

* قسم يدلُّ على المنعِم جلَّ وعَلا. وأبرزُ سمةٍ تميزُه عَدَمُ ورود اسْمِ اللَّهِ العَلَمِ (الله) اكتفاءً بصيغة (الرب) من أجل استحضار معاني: الإيناس والرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ. وتكرَّرَ ورودها ثلاث مرات مضافة إلى ضميره ﷺ إِشْعَارًا بِعِنَايَتِهِ تعالى بِرَسُولِهِ وَتَشْرِيفِهِ إياه بتلك الإِضَافَةِ: {ما ودعك ربك}، {ولسوف يعطيك ربك}، {وأما بنعمة ربك}.

 

ثالثا: محور السورة ومقاطعها:

تدور السورةُ حول محور واحد هو عناية الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، وإنعامه العظيم عليه.

 

وتتألّف من ثلاثة مقاطعَ:

- المقطع الأول: يؤكِّد - عن طريق أسلوب القَسَم - أحكاما غيرَ قابلةِ للطَّعْن أو النقد، تُقَرِّرُ أن صلة الله عز وجل بنبيه ﷺ لا تهتزُّ، ونِعَمَهُ عليهِ تمثِّلُ مَسارًا لا يَعرفُ التَّوقُّفَ: (من: {والضحى...} إلى {يعطيك ربك فترضى}).

- المقطع الثاني: يستعرِض مظاهرَ من نِعَمِ المولى على صفوة الخلقِ بوصفِها أدلَّةً على النِّعَمِ المذكورةِ في المقطع الأول: (من: {ألم يجدك يتيما} إلى: {عائلا فأغنى}).

- المقطع الثالث: يوجِّه فيه المنعِم عبده ﷺ نحو شُكْرِ النِّعَم شكرًا شامِلا:

*  شكرا عمليا، يتناسب وجنس النعم المستعرضَة.

*  وشكرا قوليا: يحدث فيه بنعمة الهداية والإيمان عن ربه: (من: {فأما اليتيم} إلى: {وأما بنعمة ربك فحدث}).

 

أ) نِعَمٌ غيرُ محدودة (المقطع الأول: جاء القسَم في صدر السورة متَّسقًا مع مضمونها (العنايةُ الإلهيَّةُ نعمةً ورحمةً) فَضِياء الضحى (النهار) وسكون الليل من آلاء الله التي يمتَنُّ بها على عباده: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} (القصص: 71)، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} (القصص: 72)، {وَمِنْ #رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ #فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (القصص: 73)} فكأنَّ الإيحاء المتضمن في القسم هو: أقسمُ برحمتي وآلائي لتكون - يا محمَّدُ - مشمولا بها!

 

اتَّسَمَ صدْرُ السورة بالتَّعادلِ الأسلوبيِّ بين النَّفي والإثبات باشتماله:

على نَفْيَيْنِ:

- "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ" (أي: لم يَتْرُككَ تَرْكَ مُوَدِّعٍ)

- "وَمَا قَلَى (أي: لم يُبْغضْك)!

 

وعلى إِثْبَاتَيْنِ:

- الأول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}.

- والثاني: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.

 

يَحسم النَّفيانِ القضيةَ الرئيسةَ المتعلقةَ (بالتَّوديعِ والبُغْضِ)، مؤكِّدَيْنِ استمرارَ العنايةِ الإلهيةِ بصفوةِ الخلقِ ﷺ استمرارًا لا انبتاتَ له، توديعًا أو بُغْضًا. وكيف يبغض الله نبيه وهو الذي أعلن الحرب على مبغضيه ﷺ {إن شانئك هو الأبتر} (الكوثر: 3).

 

وبمجموع النَّفْيَيْنِ والإثْباتَيْنِ يَبْطُلُ القَصْدُ الدَّلاليُّ الذي يَحْمِلُه التَّهَكُّمُ، ويتأَسَّسُ بديلٌ عنه، مُناقضٌ له، يَحمِلُ بِشارتَيْنِ عظيمتينِ:

* مُؤدَّى البِشارة الأولى: خَيْرِيَّةُ لَاحِقِ أمره ﷺ على سابِقِهِ مطلقًا: فَأُخْراهُ الباقِيَة خَيْرٌ له من دُنْياه الفانة، وكلُّ مَرحلةٍ يقطعُها من عمره، أو تجربة يمر بها في مشواره تكون نتيجتُها أفضلَ مقارنةً بما سبَقَها. {وللآخرة خير لك من الأولى}. وهذا من عظيم النِّعَم التي تُؤمَنُ بسببها غوائلُ الزمن، ويحصل بموجبها الاطمئنان النفسي بغضِّ النظر عن تجدُّد البيئات وتغيُّر الناس والأحوال ...

 

* ومؤدى البِشارة الثانية: جعله ﷺ قبلةَ عَطاءٍ غيرِ مَجْذوذٍ {ولسوف يعطيك ربك فترضى}:

- يَشمل - في الدنيا -: "النَّصْرَ وَالظَّفَرَ بِأَعْدَائِهَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَدُخُول النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا، وَمَا فُتِحَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا" 1.

- ويشمل - في الأخرى - : الشفاعة، والحوض، ...

 

ونلمس في الآية الكريمة روعة بلاغة القرآن:

1. فَعَدَمُ تحديد المعطَى يدل على عمومه.

2. والتعبير عنه (بسوف) يدل على استمراره وتوكيده.

3. وورود الفاء فيه يدل على حصول أثره الفوريِّ للذي أُعْطَيَهُ دون تَرَبُّصٍ أو انتظارٍ.

4. وورود (الرضا) في آخره يحقق غرضين:

الأول: كمال البشرى؛ إذ ليس بعد (الرضا) مطلب.

والثاني: إبعاد الأثر النفسي الذي خلَّفه الاحتباسُ عن القيام وما ترتب عليه، وإحلال أثر نفسي جديد محلَّه قَوَامُهُ: حصولُ المبتغى وراحة البال والطمأنينة!

 

ب) سوالف النعم أدلةُ عنايةٍ مستمرة (المقطع الثاني):

وبما مرَّ يكون الله تبارك وتعالى حلّى نبيه ﷺ في المقطع الأول من السورة بنعم عظيمة كأنه يقول لها بعد بشارته بها: هذه نعمي عليك وهي استمرار لنعمي عليك قبل تحميلك الأمانةَ. فإن كنتُ قد أنعمتُ عليك قبل تكليفكَ بالرسالةِ فما بالُك وقد اصطفيتكَ لحمْلها؟

 

يَعرض المقطع الثاني من السورة نماذج من نعم الله تعالى على النبي ﷺ قبل الرسالة أدلة

على استمرار الإنعام. وتشمل هذه النعم:

- إيواءَه يتيما {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى} فانتقل بفعل ذلك الإيواء من يتيم إلى كافل للأيتام!

- وهدايته من ضلال الغفلة "عَمَّا تَعْلَّمُهُ الْآنَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَسْرَارِ عُلُومِ الدِّينِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِالْفِطْرَةِ وَلَا بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِالْوَحْي (2)" وحده {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى}.

- وإغناءه من الفقر فأصبح أغنى الناس بحكم القناعة التي هي كنز لا يفنى، وبحكم ما كان يدره عليه عمله في تجارة زوجه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها {وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى}.

 

وهذه النعم:

1. من حيث ارتباطها بأنشطة لناس المعهودة تغطي مناحيَ الحياة كلها، ففيها:

- الجانب الاجتماعي – الأسري ممثلا باليتم وغياب الأبوين.

- والجانب الفكري والنفسي ممثلا بالقلق والحيرة من سلوك قومه الديني، والغفلة عما سيتعلمه لاحقا.

والجانب الاقتصادي ممثلا بالفقر والغنى.

 

2. ومن حيث صلتها بالزمن تغطي أهم مراحل العمر:

- مرحلة الطفولة (عندما كان يتيما).

- مرحلة (الفتوة) (عندما كان عائلا).

- مرحلة الكهولة (عندما كان علم الوحي ذاهبا عنه / ضالا).

 

وقد جنحت الآيات في هذا المقطع من السورة إلى تقرير حقائق النعم عبر أسلوب الاستفهام الذي يستثير المتلقيَ ويُحرِّكه لسماع ما يلقى إليه.

 

وكان لافتا دقَّةُ الأسلوب القرآني في إبراز ضمير الخطاب للنبي ﷺ، دون إسناد: اليتم، والإضلال، والفقر إلى الله، مع أنها - في الحقيقة - صادرة عنه - جل وعلا؛ لأن الغرض تقريره صلى الله عليه وسلم بهذه النعم، ثم قَلْب الأمر في أفعال: الإنعام إذ أسندت إلى الله تعالى دون إبراز ضميره ﷺ لأنه تعالى هو المنعِم بها، والمقام مقامُ امتنان: (فآوى، فهدى، فأغنى).

 

ج) شكر النعم بلسان الحال ولسان المقال (المقطع الثالث):

ويأتي المقطع الثالث ليوجه الحبيب – ومن خلاله أمتَه – إلى شكر النعم. ويلحظ في طبيعة هذا الشكر الموجَّه إليه أنه:

- ذو طبيعة عملية، يتجسَّد سلوكا على أرض الواقع، ويتحقَّقُ قِيَمًا إنسانيةً خالدةً في بيئةٍ، الحياةُ فيها للأقوى، والضَّعيف لا يعيش! {فأما اليتيم فلا تقهرْ، ...} وتلك غاية بعيدة لا تتحقق إلا لمن أوتيَ الحكم، وكان خلقه القرآن.

- ينسجم مع طبيعة النِّعم المذكورة: فإذا كان الله تعالى آوى المصطفى ﷺ وهو يتيمٌ فمِن شُكْر النعم أن يكونَ هو مَوْئلًا لليتامى، وإذا كان أغْناه من الفقرِ فَحَرِيٌّ به أن يتلطفَ بالسائل والمحرومِ... فيعطيهما دون إهانة ولا إذلال، وإذا كان الله هداه لعلم الشريعة فلا بد من التلطف بالمسترشد وطالب العلم والمستفتي.

- يشمل التحديث بنعم الهداية والإيمان، والتبليغ عن الله وَحْيَهُ، أخْذًا بعموم الدلالة في: {وأما بنعمة ربك فحدث} إذ يعد ذلك من ضروب شكر المنعِم على النعمة العظمى المعبر عنها بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ #نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3).

 

رابعا: خلاصة تركيبية:

تلك سورة الضحى: بِشاراتٌ، ومَشاهدُ نِعَمٍ لا حدودَ لها، أوْرَثَتِ المصطفى ﷺ خزائنَ ربه يَتَبَوَّأُ منها حيثُ يشاء، في ماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومَثَّلَتْ له سُلُوًّا عن الجَوِّ النفسيِّ الذي كان يَعيشه بسبب الاحتباس المؤقت للوحي. وهي وإن كانت له ﷺ خالصةً فإن حظَّ أمَّته منها – بالتبعية - ليس باليسير.