على مدار الساعة

الدستور وحتمية المحاكمة

15 أبريل, 2020 - 17:03
محمد يحيى ولد باب أحمد -  أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدستوري والحريات العامة بكليتي الحقوق والعلوم السياسية بتونس المنار وجندوبة سابقا

على خلاف ما ذهب إليه البعض من تشكيك في شرعية محاكمة ولد عبد العزيز فإنني أعتقد أنه لا مندوحة ولا مناص من إخضاع هذا الرجل لمحاكتين اثنتين وفقا لمقتضيات الدستور.

 

صحيح أن منذ استحواذه على السلطة بالقوة، وطالما بقى متمسكا بمقاليدها فإنه لم يكن هناك مجال عملي ولا حتى مبرر قانوني أو شرعي للقيام بتلك المحاكمات، (وفقا لنظريتي السلطة، والموظف الفعلي)، وكذلك حجية المتغلب في الفقه الإسلامي.

 

ولكن منذ اللحظة الأولى التي يتم فيها استرداد السلطة من المتغلب فإنه يصبح لزاما على السلطات الجديدة - كل حسب اختصاصه وحدود سلطانه - محاسبة المتغلب السابق على اعتداءاته المتكررة على سيادة الشعب ونظامه الديمقراطي (وهذا ما سنتعرض له بالبحث أولا)، ثم متابعته ومحاسبته طيلة فترة حكمه على كل ما من شانه أن يصنف على أنه خيانة عظمى (وهذا ما سيتم بحثه ثانيا).

 

أولا: إلزامية محاكمة ولد عبد العزيز بموجب الإخلال بمبدئي سيادة الشعب والنظام الديمقراطي:

وفقا للمادة الأولى من الدستور فإن "موريتانيا جمهورية، ديمقراطية"، وانطلاقا من إقرار هذه الديمقراطية اقتضت المادة الثانية من نفس الدستور أن "الشعب هو مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب الذى يمارسها عن طريق ممثليه المنتخبين".

 

وللحيلولة دون إمكانية استغلال فرد أو مجموعة من الأفراد لانتمائهم للشعب الموريتاني كمبرر للاستئثار بالسلطة وممارسة السيادة، أقرت نفس المادة أنه "لا يحق لبعض الشعب ولا لفرد من أفراده أن يستأثر بممارستها".

 

بل وأمعنت هذه المادة في تفصيل الطريقة الحصرية للوصول إلى السلطة قائلة "تكتسب السلطة السياسية وتمارس وتنقل في إطار التداول السلمى".

 

وسدا لذريعة طالما عانى الشعب الموريتاني من الاكتواء بنيران سلبياتها تحت يافطة المصلحة العامة وضعت هذه المادة الأصبع على مكن الخطر بقولها "تعتبر الانقلابات وغيرها، من أشكال تغيير السلطة المنافي للدستور جرائم لا تقبل التقادم، ويعاقب أصحابها والمتمالؤون معهم سواء أكانوا اشخاصا طبيعيين أو اعتباريين بموجب القانون".

 

فبالله عليكم أين المفر من محاكمة هذا الرجل بسبب انقلابه لعام 2008 والدستور يسطر بهذه الدرجة من الوضوح والصراحة وتوصيف مشاهد هذا الموقف بهذه الدرجة من الدقة وكأنه شاهد عيان.

صحيح أن الفقرة الموالية من هذه المادة أشارت إلى استثناء بهذا الخصوص بقولها: "لكن هذه الأفعال لا تكون محل ملاحقات إذا كان قد تم ارتكابها قبل تاريخ نفاذ هذا القانون الدستوري".

 

غير أننا نعلم جميعا أن ارتكاب إثم انقلاب 2008 جاء بعد سريان مفعول هذا القانون الدستوري وأنه بذلك يخرج من دائرة هذا الاستثناء وتنطبق عليه الشروط المحددة للمساءلة وإنزال العقاب، بعيدا عن ذلك الاستثناء الذى قد يكون القصد الأساسي منه إعفاء المشاركين في انقلاب 2005 الذى سبق إقرار هذا النص الدستور في تعديل 2006.

 

ثم إنه يتسنى استثناء ولد عبد العزيز من المحاكمة على فعلته الانقلابية لعام 2008 والدستور نفسه في تعديله لسنة 2006 يشدد في مادته الثانية على أن هذا الصنف من الجرائم لا يسقط بالتقادم؛ علاوة على أن الدستور دأب على تكرار أن سيادة الشعب - التي ضرب بها ولد عبد العزيز ههنا عرض الحائط - غير قابلة للتنازل عنها إلا بإقرار من الشعب نفسه.

 

إن من المفارقات حقا أن يحاول بعض قانونيينا التمترس وراء نص المادة: 93 من الدستور كوسيلة لحماية ولد عبد العزيز من المساءلة على أساس أنه "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى".

 

وهل هناك خيانة عظمى أفدح من خرق سيادة الشعب وتعطيل الدستور والمساس بالمصالح العليا للدولة والشعب وتقويض النظام الديمقراطي وإلغاء بعض المؤسسات الدستورية لمجرد إشباع نزوات فردية في الهيمنة والتسلط والتملك والإثراء الفاحش بلا سبب؟

أو ليس مفهوم الخيانة العظمى الوارد في هذه المادة في حد ذاته برهانا قانونيا ساطعا على حتمية محاكمة الرجل وفقا لمقتضيات الدستور؟

 

ثانيا: مفهوم الخيانة العظمى وحتمية المحاكمة:

 الخيانة العظمى هي فكرة ذات ارتباط وثيق بالجرائم السياسية وليست جريمة جنائية مستقلة بذاتها بالرغم من إمكانية التباسها أحيانا ببعض عناصر الجريمة الجنائية أو القصد الجنائي.

 

وتبدو هذه الفكرة ذات صلة مباشرة بممارسة الوظائف السيادية السامية في الدولة، وهذا ما جعل الفقيه الفرنسي Antide Moreau يعتبر أن هذه الفكرة "تتعلق إجمالا بالإخلال بالواجبات التي تقع على عاتق رئيس الدولة".

فيما اعتبر Maurice Duverger بأن "الخيانة العظمى بالنسبة لرئيس الجمهورية تتكون من إساءة استعمال الرئيس لوظيفته بكيفية ينتج عنها عمل مناف للدستور أو المصالح العليا للبلاد".

 

أما العميد G Videl فقد قال "إن الخيانة العظمى بالنسبة لرئيس الجمهورية وبمقتضى التقاليد الفرنسية هي الإهمال الخطير في أداء الأعمال الملقاة على عاتق رئيس الجمهورية، وإنه تبعا لذلك يمكن تكييف خرق الدستور من الناحية القانونية على أنه خيانة عظمى".

 

أما André Horio فيعتبر أن المقصود بمفهوم الخيانة العظمى "هو الجرائم السياسية التي تهدد سير المؤسسات أو المصالح العليا للبلاد".

 

وهكذا يتضح من هذا الاستطراد لساحة الفقه الفرنسي شمولية مفهوم الخيانة العظمى ليشمل كل عمل من شأنه المساس بالسير المنتظم للمؤسسات الدستورية أو خرق الدستور أو الإضرار بالمصالح العليا للدولة أو حتى الامتناع عن بذل جهد كان من شانه جلب مصالح للدولة لدرجة أن أحد القانونيين علق بالقول إن "تطبيق مفهوم الخيانة العظمى كان من شانه أن يؤدى إلى إدانة جميع رؤساء الدولة الفرنسية باستثناء الجنرال ديكول".

 

وهذه الشمولية بالذات هي ما جعلت المشرع الفرنسي يلجأ لتعديل هذه العبارة واستبدالها بعبارة "الإخلال بالواجبات" بموجب المادة: 68  من القانون الدستوري 238 - 2007 بتاريخ 23 فبراير 2007.

 

أما المشرع الموريتاني الذى لم يقم بعد باستبدال عبارة الخيانة العظمى بعبارة "الإخلال بالواجبات" أو بأي عبارة أخرى بديلة فإنه تكاد كل المجالات التي تحقق اللجنة البرلمانية فيها حاليا أن تكون أساسا صالحا لتوجيه تهمة الخيانة العظمى في حين يصلح بعض مجالات تلك التحقيقات لأن يكون أساسا لتوجيه تهمة "الإخلال بالواجبات".

 

ويبقى من صلاحيات البرلمان الحالي توسيع وتمديد هذا التحقيق ليشمل أي مجال من مجالات الاختصاص التنفيذي طالما كان ذلك المجال محل اشتباه ووافق البرلمانيون على ذلك التحقيق.

 

ولعله من المناسب هنا أن ألفت الانتباه، - قبل إنهاء هذا الموضوع الذى أوجزت فيه رغم ثرائه خشية الإملال - الفت الانتباه إلى أنني أهملت عمدا مناقشة حيثيات حصانة الرئيس بعد خروجه من السلطة لسببين اثنين:

- الأول: هو أن وضوح النص العربي للدستور - وهو الأصل المعتمد قانونيا - لا يترك مجالا للشك في اقتصار الحصانة الممنوحة للرئيس على فترة مباشرة ممارسته للسلطة وليس بعدها بأي حال من الأحوال.

 

فعبارة (أثناء) الواردة في النص لا تحتمل في أي من دلالاتها اللفظية معنى استمرار الحصانة بعد الخروج من السلطة.

 

- أما السبب الثاني فهو أن المقارنة بين النص الفرنسي والنص الموريتاني التي حاول البعض من خلالها الاعتماد على بعض التأويلات الفرنسية المعزولة هي أصلا مقارنة غير واردة بسبب اختلاف النصين والتمايز الشاسع بين شخوصهما ومجالات التطبيق.

 

كما أن الموقف المجامل للرئيس الفرنسي François Metterand من استدعاء سلفه جيسكار دستين لا يمكن الاعتداد به في الحصانة بعد الخروج من السلطة لغياب عنصر التكرار في نفس الممارسة، ولاضطراد مثول الرؤساء الفرنسيين اللاحقين (جاك شيراك، وساركوزى... وغيرهم أمام العدالة الفرنسية بعد ذلك).

 

وأخيرا، فإنه من نافلة القول التأكيد على أن المصلحة العليا للوطن والمنطق السليم للأشياء وقواعد القانون الطبيعي الملزمة تقتضى كلها تنفيذ هاتين المحاكمتين ليس فقط تطبيقا لمقتضيات الدستور (وهو أمر واجب قانونيا وقطعي الدلالة عمليا)، ولكن أيضا لأنه بدون تحقق هذه المحاكمات لن يبقى لهذه النصوص الدستورية أي معنى قانوني ولا أية قيمة ردعية للحيلولة دون التكرار السرمدي لتلك الانقلابات والتجاوزات الموغلة في الاستهتار بالمصالح العامة وببنية الدولة ومؤسساتها ولا بأية قيمة خلقية أو فطرية أيا كانت.